قراءة لعهد جديد
|
الشيخ صاحب الصادق
تماماً عندما كان أباطرة الأنظمة العربية يتربعون بزهو وخيلاء على عروشهم الفرعونية وهم ينفضون أيديهم من قضايا الأمة التي سلّموها جملة وتفصيلاً بيد أمريكا.. راعية الأنظمة الطاغية والمستبدة في المنطقة. وتماماً عندما كانت بعض النخب السياسية تلهث وراء أصحاب السلطة والمال، متلهفين لإشراكهم في اللعبة السلطوية، حتى ولو كان بثمن التخلي عن المبادئ والأهداف، والاكتفاء بالشعارات المظهرية، لمواصلة استدرار الرزق من خزينة السلطان من جهة، ولتزويق أعتى الأنظمة استبداداً بمساحيق الديمقراطية والتعددية الزائفة. وتماماً عندما كانت المؤسسات المشرفة على البثّ الفضائي تلحس قصاع وزراء إعلام السلاطين في إغلاق هذه القناة، والتشويش على الأخرى، وطرد الثالثة من نادي القنوات الفضائية، بهدف احتكار الأجواء الإعلامية العربية، في عالَمٍ قفز بعيداً إلى التحرر من كل القيود السلطوية التي تعوّدت الأنظمة فرضها على الأقلام والأفواه والأبصار والأسماع. وتماماً عندما كان وعّاظ السلاطين هنا وهناك يبتدعون فتاوى لم ينزل الله بها من سلطان لتعزيز قوائم العروش الطاغية المستبدة التي يطلقون على المتربعين عليها عنوان (أولي الأمر) زوراً وبهتاناً. تماماً عند كل هذا وذاك تفجر ولايزال يتفجر الشارع العربي بشبابه وشاباته -انطلاقاً من تونس ومصر والبحرين واليمن- ليشطب بقلم الوعي والإرادة على كل المعادلات العربية الخانعة في القصور الفخمة المترهلة.. وليوقظ الأباطرة -الذين ولد بعضهم ملكاً أو أميراً، والبعض الجمهوري الآخر رشح نفسه وانتخبها لعدة مرات وهو يعدّ أولاده لوراثة العرش- ليوقظهم على وقع أصوات لم يألفوها طوال عقود متمادية من الزمن: الشعب يريد إسقاط النظام.
عجباً.. لماذا يريد الشعب هذا الشيء الغريب؟. وأساساً: هل فعلاً الشعب يريد هذا أم هو افتراء يبثه الدخلاء والعملاء بأسم الشعب المسكين؟. إنّ وزراء الإعلام ورؤساء المباحث والمخابرات يكتبون في تقاريرهم اليومية: إن الشعب يُسبِّح بحمد السلطان ليل نهار، وكل الأمور تسير على ما يرام. والعم سام، وأصحاب العيون الزرقاء، وأبناء يعقوب كلهم راضون عن أداء الأنظمة للأدوار المرسومة لها بكل تفانٍ وإخلاص.. إذن، فهذا الصوت دخيل.. وقد لا يكون صوتاً من بشر، بل هو تسجيل يُبَث لتعكير الأجواء!!. وبعد فترة اكتشف أحد سلاطين جنوب الجزيرة العربية: أن انطلاق هذه الأصوات تُديرها غرف عمليات في واشنطن وتل أبيب !.وكان هذا من أعظم اكتشافات القرن، إذ أزاح الستار عن أعقد معادلة عاشتها المنطقة العربية منذ اغتصاب فلسطين حتى اليوم.. حيث عرفنا بذلك أن سلاطين بلادنا -الوارثيين والجمهوريين على حد سواء- كانوا منهمكين في التخطيط والعمل من أجل تحرير القدس ودحر العدو الصهيوني طوال العقود الماضية إلا أن الشعوب المرتبطة بغرف عمليات واشنطن وتل أبيب كانت هي العقبة أمام هذا الإنجاز العظيم الذي أقسم زعماؤنا البواسل على الالتصاق بالكرسي إلى آخر لحظة من حياتهم لتحقيقة!
حقًّا إن المستبد لا يرى شيئاً أبعد من روثة أنفة. إن مشكلة الأمة كانت -ولاتزال- تكمن في الاستبداد الجاثم على صدرها. فعندما اضطر الاستعمار المباشر على الرحيل من بلادنا تحت ضغط الشعوب من جهة، ولأن الثمن المدفوع بإزاء استمرار الاستعمار المباشر كان قد أصبح باهضاً جدًّا من جهة أخرى، زرع وراءه أنظمة استبدادية حتى النخاع. وسواء كانت وراثية أم جمهورية، فقد أتقنت اللعبة باستغلال الجهل والتخلف اللذين كان يلقيان بظلالهما الثقيلة على بلادنا، وبدعم الخبرة السياسية والاستخباراتية المستوردة. استغلت السلطات في بلادنا صمت الأكثرية من أبناء الشعب لتجييره في مصلحتها وتعزيز قوائم عروشها.وبصراحة -وقد تكون هذه الصراحة مؤلمة- إنّ الشعوب تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية استمرار الأنظمة الاستبدادية وتربعها على العروش لحقب طويلة دون أي تغيير يُذكر؛ ذلك لأن انشغالها بالبحث عن الرزق اليومي، ونسبة ضئيلة من العيش المادي المحفوف -في أكثر الأحيان- بالصعوبات والمشاق، وتوجيه اهتماماتها إلى الأمور الهامشية في الحياة، والغفلة التامة عن الكرامة الإنسانية التي استباحتها السلطات المستبدة، والتغاضي عن سحق الحريات، والسكوت عن عمليات النهب الواسعة بواسطة البطانات الملتفة حول العروش، كل تلك شكَّلت الأجواء المناسبة لنمو شجرة الاستبداد الخبيثة ومد جذورها في أعماق حياة الشعوب.
والآن وحيث تسلَّحت الشعوب بالوعي والإرادة وكسرت حواجز الصمت والغفلة، وتحرَّكت في الاتجاه الصحيح، عليها أن تحرص على هذا السلاح، وألَّا تفرِّط به، فالعودة إلى الوارء، والانغماس من جديد في غياهب الصمت والغفلة، جريمة لا تُغتفر بحق الذات والأجيال القادمة. إن المسؤولية الكبرى -بعد الثورة نفسها وإنجاحها- هي المحافظة على وعي الثورة والتشبّع بروح التغيير والإصلاح المستمرين. وبهذا الصدد أمام الشعوب التي تحررت -كشعوب تونس ومصر وليبيا - خطران كبيران يهددان المكاسب التي رُويت بدماء الضحايا الأبرياء الذين أعطوا أرواحهم ودماءهم ثمناً باهضاً للحرية والكرامة. الخطر الأول هو محاولات بقايا الأنظمة الفاسدة المندحرة للالتفاف على أهداف الثورة وإيقاف عجلة التغيير عن التقدم إلى الأمام، بل وإعادتها إلى الوراء إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وطريقهم إلى ذلك: الرموز التي لم تسقط حتى الآن وظلت تراوغ في مكانها بانتظار الفرص السانحة للانقضاض على مكاسب الثورة، إلى جانب المؤسسات التي رعتها الأنظمة الفاسدة واستندت إليها في تعزيز دعائم الاستبداد والديكتاتورية كالمؤسسات الإعلامية، والأمنية، والاستخبارية، والحزبية، وما شاكل.. إن الثورة لا تضمن استمرارها وبقاءها إلَّا بالتخلص من عبء هذه الرموز والمؤسسات بشكل عام. والتغاضي عن هذا الخطر وعن دَرئة هو الموت المحتّم للثورة، وإهدار دماء الضحايا التي سقت شتلات التغيير في ساحات الاعتصام وتحدي الطغيان.
أما الخطر الثاني، فيكمن في المواقف الحقيقية للدول الغربية وأمريكا من انتصار الحراك الشعبي. فرغم التعاطف الإعلامي، والتصريحات السياسية الرسمية المعلَنة المؤيّدة بشكل من الأشكال لرحيل الأنظمة المنبوذة شعبيًّا، إلا أن هذا الظاهر لا يعكس بالضرورة الموقف الحقيقي الذي يتخذه الغرب وأمريكا خلف الكواليس وفي الدوائر الاستخباراتية وفي اللقاءات والاتصالات الخاصة برموز الأنظمة المنبوذة، فالغرب يهمه أولاً وقبل كل شيء مصالحه في المنطقة، وهذه المصالح مقدّمة على شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، والتي تُستخدم للاستهلاك الإعلامي في أغلب الحالات، إنما المهم عندهم في النهاية هو ضمان المصالح وعدم المساس بها. ولذلك فعلى شعبي تونس ومصر -ومن حذا حذوهما- أخذ الحيطة والحذر في التعامل مع القوى الأجنبية، والتمسّك بقوة بمكاسب الثورة والتغيير، والإصرار على حفظها وتعزيزها في الواقع السياسي والاجتماعي. وكلمة أخيرة: إذا كان التغيير في تونس ومصر قد أوقد شمعة الأمل في نفوس الشعوب المقهورة والمضطهدَة بهبوب رياح التغيير والإصلاح في بلادها، فإن علينا جميعاً أن نعرف حقيقة هامة، وهي أن رياح التغيير في البلاد الأخرى لا تكون بسهولة هبوبها في تونس ومصر، بل سوف يكتنفها الكثير من التحديات والصعوبات والتضحيات، لأن الأنظمة ومن يسندها من القوى الخارجية فتحت عيونها جيداً، وأخذت تخطط من أجل التصدي للرياح الآتية من ساحات التغيير والإصلاح لتطويل أعمارها يومين آخرين.ولكن بالاستعانة بالله تعالى، والإرادة الفولاذية التي انطلقت من وراء أسوار الصمت والغفلة، وبروح التحدي والاستقامة، ستقطف الشعوب المضطهَدَة ثمار تحركها الطيب كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
|
|