الرسالية في الثقافة والانطلاق نحو التجديد
|
*ابراهيم محمد جواد
من السهل الحديث عن اهمية الثقافة في المجتمع، وانها عصب الحياة في جانبها المادي والمعنوي في وقت واحد، لكن من السهل تحديد ملامح هذه الثقافة كمفردة وكفكرة لنعرف الطريقة التي نستوعبها وننهض بها الى الامام.
إن كلمة الثقافة لم ترد إطلاقاً في القرآن الكريم، ولا في السنّة النبوية المطهّرة، كما لم ترد أيضاً في نصوص العرب وأشعارهم لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وقد وصفها المعجم الوسيط بأنها كلمة مُحدَثة في اللغة العربية، مما يدل دلالة قاطعة على أنها لم يكن لها عند العرب والمسلمين ذلك الوزن الذي يُعطى لها اليوم، ومن هنا فإن العرب والمسلمين حتى إلى ما قبل قرن من الزمان لم يكونوا يولونها أي حظ من الاهتمام، بينما هي اليوم كل شيء في حياة البشرية، بل هي مرآتها.
إن جذر كلمة (ثقافة) هو (ثقف)، ولهذا الجذر معنيان رئيسيان متباينان في اللغة العربية:
الأول: ثَقَفَ: قال الفيروز أبادي: ثَقَفَه: أي صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه، وأُثْقِفْتُه: قُيِّضَ لي، وبهذا المعنى جاء قوله تعالى: "فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" (الانفال /57).
الثاني: ثَقِفَ يثقَفُ، وثَقُفَ يثقُف، ثَقْقاً وثَقَفاً وثقافةً: صار حاذقاً خفيفاً فطِناً، ومنه: ثَقِفَ الكلام: حذقه وفهمه بسرعة، ثقَّف الرمح: قوّمه وسوّاه، ثقَّف الولد: هذّبه وعلّمه، ثاقفه مثاقفةً: غالبه فغلبه في الحذق.
ويبين ابن منظور في لسان العرب أن معنى ثَقَفَ: جدّد وسوّى، ويربط بين التثقيف والحذق وسرعة التعليم. ويعرّف المعجم الوسيط الثقافة بأنها: (العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها الحذق).
هذا في اللغة العربية، أما في اللغة الإنكليزية فكلمة (Culture) التي تترجم إلى العربية على أنها الثقافة والتهذيب والحراثة، وقد يعطونها أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها (Cult)، ومعناها عبادة ودين، ومن مشتقاتها (Cultivation)، ومعناها: حراثة، تعهد، تهذيب، رعاية، و (Cultural) ومعناها ثقافي، مستولد.
ونلاحظ أن معناها في الإنكليزية لا يخرج عن معناها في العربية، غير أنه يضيف مصداقاً آخر من مصاديقها، وهو حراثة الأرض، ورعاية الزرع، والاستنبات والتوليد، لكنه بشكل ما يربط مفهوم الثقافة بالعبادة والدين فهما من جذر واحد، فالدين كان المنبع الأول إن لم نقل الوحيد للثقافة قديماً، وأظن أنه حتى الآن لا يزال المنبع الأساس والمرتكز الأهم للثقافة، فكانت الثقافة تعني الدين أو الحكمة أو الفلسفة، وكان المثقف هو النبي أو الحكيم أو الفيلسوف.
تعريف الثقافة
على ضوء ما تقدم، يتبين لنا أن مصطلح الثقافة هو مصطلح غربي، ولذلك فإنه لا بد لنا أن نتفحّص تعاريف الغربيين للثقافة. منها تعريف ادوارد تايلور: (الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشمل المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع). فيما يعلق الدكتور معن زيادة على هذا التعريف بقوله: (على ضوء الدراسات المستجدة، أصبح بمقدورنا أن نأخذ على تعريف تايلور عموميته وطابعه الوصفي، وإهماله حركية وديناميكية الظاهرة الثقافية، إضافة إلى إهماله العلاقة بين الثقافة والمجتمع البشري الحامل لتلك الثقافة من جهة، والبيئة أو المحيط الخاص بتلك الثقافة من جهة أخرى). ويقول كوينسي رايت: (الثقافة هي النمو التراكمي للتقنيات والعادات والمعتقدات لشعب من الشعوب، يعيش في حالة الاتصال المستمر بين أفراده، وينتقل هذا النمو التراكمي إلى الجيل الناشئ، عن طريق الآباء، وعبر العمليات التربوية). ويقول: مالينوفسكي: (الثقافة هي جهاز فعال ينتقل بالإنسان إلى وضع أفضل، وضع يواكب المشاكل والطروح الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك، في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية). وفي كتابه (هوية الاسلام الثقافية) يقول غوستاف فون غرونيوم: (الثقافة نظام مغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون وبالسلوك الإنساني).
إذا نحن بسّطنا الموضوع قليلاً، وتجنّبنا محاولة الوقوع في مطب تعريف الثقافة تعريفاً جامعاً مانعاً كما يقول أهل الاصطلاح، واكتفينا من كل ذلك بالحديث عن الثقافة كمفهوم حديث أو كمصطلح حديث، فلربما أمكننا القول عن الثقافة: إنها المخزون الحي في الذاكرة، كمركب كلي ونمو تراكمي، مكوّن من محصّلة العلوم والمعارف والأفكار، والمعتقدات والفنون والآداب، والأخلاق والقوانين والأعراف والتقاليد، والمدركات الذهنية والحسية، والموروثات التاريخية واللغوية والبيئية، التي تصوغ فكر الإنسان، وتمنحه الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تصوغ سلوكه العملي في الحياة.
ومن المهم أن نشير هنا، إلى أن هناك من يساوي بين الثقافة والحضارة ويجعلهما مفهوماً واحداً، ومن أشهر هؤلاء تايلور، وهنالك من يفرق بينهما، إما على أساس أن الثقافة تشير إلى ما هو عقلي، في حين تشير الحضارة إلى ما هو مادي، أو على أساس أن الثقافة تعني المظاهر المادية للحضارة كالتقنية والصناعة، وأن الحضارة تعني المظاهر الأدبية والفلسفية والعقلية، وكل ذلك الاختلاف عائد إلى التعاريف التي عرّفوا بها الثقافة، والتي نقلنا معظمها فيما مضى من هذه الدراسة. ومن جهتنا نحن، فإننا نستطيع أن نرتاح إلى حقيقة أن الثقافة والحضارة متداخلتان إلى ما دون الامتزاج والتساوي، ومتمايزتان إلى ما دون الافتراق والتباعد.
غزو ثقافي أم تفاعل ثقافات؟
الحقيقة أنه لا يمكن وضع سقف للتقدم الثقافي في عالم سريع التطور والتقدم، دائم التغيير والتبدل، بل والتحول، لأن وضع سقف لثقافة أمة، يعني وقف نمو الأمة والإخلال بشروط بقائها واستمرارها، وبالتالي الحكم عليها ببداية شوط السقوط والموت.
ولكي تبقى الثقافة في حالة نمو، فإنه لا بد من انفتاح الثقافات المتنوعة المتباينة على بعضها، الانفتاح الذي يسمح لها بالفعل والانفعال، من أجل الإطلال على آفاق جديدة من عوامل الثقافة ومكوناتها، لكن ذلك مشروطٌ بالانفتاح الحر، الذي يتيح التفاعل الطبيعي دون ضغطٍ أو قهرٍ أو إلجاء، لينضج في بوتقة التفاعل فعل الثقافة الأصح والأكمل والأشمل، في الثقافات الأقل صحةً وكمالاً وشمولاً، أو لنقل: لتجتذب كل ثقافةٍ ما تحتاجه لكمالها وشمولها، من الثقافات المنفتحة عليها بشكل حر، وبما يشبه انتقال السوائل في الأواني المستطرقة، ولا أقول يشبه التفاعل بين السخونة والبرودة، بحيث يبرد الساخن ويسخن البارد، حتى تتساوى درجة الحرارة في السائلين المتجاورين. إن هذا التفاعل الحر الذي ينطوي على الفعل والانفعال، قد يؤدي للوصول إلى ثقافة عالميةٍ باتت ملامحها اليوم شبه واضحة، يتوحّد عليها البشر في يوم من الأيام مهما طال انتظاره.
ومن هنا دعونا نطل بموضوعية على ما سمّي بالغزو الثقافي، الذي يقابله في الجانب المغزو ما يوصف بالانهزام الثقافي، ونقرر مبدئيًّا أن كل الثقافات الإقليمية والقومية والعرقية، قابلة بكل المقاييس لأن تمارس الغزو الثقافي، كما هي قابلة أيضاً لأن تقع فريسة له بسبب الانهزام الثقافي.
إن أسباب الانهزام الثقافي في مثل هذه الأحوال لا تخرج عن سببين اثنين: إما داخلي ذاتي، ناجم عن التراخي والكسل، أو عن التحجر والجمود والانغلاق على الذات، لفترة من الزمن تطول أو تقصر. أو خارجي ناجم عن امتداد الثقافات المتقدمة والمتطورة عند الشعوب والأمم المحيطة والمجاورة، والتي تطرق الأبواب باستمرار بهدف أو بآخر. وعندما تكون الثقافة إنسانية عالمية، فلا ينطبق على تحولاتها عنوان الانهزام الثقافي، كما لا يمكن أن يوصم أثرها في الثقافات القومية والعرقية والإقليمية وما شاكلها بالغزو الثقافي، إنما هو التفاعل الثقافي فعلاً وانفعالاً.
لا ينكر هنا أن القوى الاستكبارية الغاشمة، سواء منها العسكرية أو الاقتصادية أو الإعلامية، قد تستطيع أن تساند ثقافة ما فتصمد لفترة أطول، أو قد تفرضها على الشعوب فرضاً لحين من الزمن، لكن ذلك لا يمكن أن يدوم طويلاً، فكم من أمةٍ مهزومةٍ عسكرياً، استطاعت أن تهزم مستعمريها ثقافيًّا، ومازالت ماثلةً للأذهان حالة التتار والمغول الذين اكتسحوا العالم الإسلامي عسكريًّا، ليجدوا أن الإسلام قد استحوذ عليهم ثقافيًّا، ولم يترك أمامهم أي مجال سوى اعتناق عقيدته، وتبني ثقافته، وتمثّل قيمه الإنسانية العليا، فاستسلموا لذلك دون أية مقاومة تذكر.
إن الشعوب التي يخفت في أعماقها و وجدانها صوت ثقافتها، وتنبهر أبصارها بوهج بريق ثقافة الغير، لابد أن تنهزم أمام هذا الغير وأمام ثقافته، وانهزام الشعوب ليس بالضرورة انهزاماً للثقافة التي كانت تحملها. فالثقافة القائمة على أسس صحيحة سليمة وأركان قوية متينة، لا تنهزم لا في السلم ولا في الحرب، وإن هي كمنت إلى حين تحت ضغوط عوامل خارجية طارئة ومؤقتة.
أما الثقافات الأخرى التي لا تملك مثل هذه الشروط والمقومات، فإنها سرعان ما تزول وتنهزم مهما لمع بريقها في حين من الأحيان، ومهما روّجت لها الأنظمة القوية المسيطرة عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، فالحق لا بد أن يسود، والباطل لا بد أن يمحى من الوجود، مصداقاً لقوله تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ".
المثقّف الإسلامي: رساليًّا ومجدّداً
إن الرسالة الإسلامية بطبيعتها وجوهرها، رسالة تغييرية تجديدية، وذلك بحكم واقعيتها وتوازنها وشمولها وعالميتها، وقد جاءت على فترة من الرسل لتضع عن الناس الآصار التي خلّفتها فيهم القرون المنصرمة، بسبب الانحراف عن الشرائع والتنكّب عن خط الأنبياء، ولتفكّ عنهم الأغلال التي قيّدهم بها التقليد الأعمى للتطبيقات البشرية خلال العصور الغابرة، ولتكسر عنهم صخور الجمود على التراث بما يحمل من تراكمات، وما ينطوي عليه من قصور في الاجتهاد، وعجزٍ في التطبيق.
والرسالة الإسلامية متجدّدةٌ متطوّرةٌ كذلك، بحكم ما صيغت عليه لتكون صالحةً لكل زمانٍ ومكان، ولتكون بحق الرسالة الخاتمة التي يصلح بها الناس إلى آخر الزمان.
ولكي يكون المثقّف الإسلامي رساليًّا حقًّا ومجدّداً فعلاً، يجدر به أن يتوفّر على تحصيل عدّة عوامل يحققها في نفسه، ويحاول تحقيقها فيمن حوله من المثقّفين الإسلاميين. نذكر بعضاً من هذه العوامل والضوابط دون حصر، ليبقى باب الاجتهاد في هذه المسألة مفتوحاً على مصراعيه:
1- فهم اللغة:
لم تعد مصيبتنا الحالية محصورة في عدم فهمنا للّغة العربية، بل تعدّت ذلك إلى ما هو أشدّ خطراً، وهو أننا بتنا نفهم لغتنا بشكل مغلوط، ونصرُّ على أنه الفهم الصحيح الذي لا تشوبه شائبة، الأمر الذي يحجب عنا مدى الخطأ الذي نقع فيه، ويمنعنا من الإحساس بالحاجة الفعلية إلى التصحيح والتغيير. فنحن بسبب هذا الفهم الخاطئ للّغة نغدو بين تيارين: تيار يتمسّك بدينٍ موهومٍ، ويتجمّد على مفاهيم مغلوطة وممارساتٍ خاطئة. وتيار ينفر من الدين، ظنًّا أن هذه المفاهيم والممارسات هي من هذا الدين، ونابعة من مشكاته.
ولكي نخرج من هذه الحالة المزرية، لابد من الإحساس بالخطأ الفادح في فهمنا للغتنا، ولا بد من المحاولة الجادّة للعودة إلى الفهم السليم للمعاني الأصيلة للغتنا العربية. إن هذا هو أهم شرط من شروط التجديد والتغيير، لأن الفهم السليم والصحيح للّغة العربية هو السبيل الأوحد للاستفادة الحقيقية من المصادر الأساس لثقافتنا الإسلامية، وخاصّةً القرآن الكريم والسنّة النبوية.
2- التفريق بين الدين والتراث:
هناك حقيقةٌ لا تقبل الجدل، ولا يختلف فيها أصحاب البصائر والفطن، وهي أن الدين الذي أنزله الله تعالى على الأنبياء شيءٌ، وتطبيقات الأمّة له خلال العصور شيءٌ آخر، ولا يجوز الخلط بين الشيئين: فالدين المنزل من الله سبحانه بصائرُ معصومةٌ، ونهجٌ سديدٌ لا خلل فيه ولا شكّ ولا ريب: قال تعالى: "ألم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ"، وقال عزّ وجل: "إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً". أما التطبيقات البشرية فقد يكتنفها الكثير من الجهل والخطأ والهوى والعجز والتقصير، إنها في أحسن الأحوال -ومع حسن النوايا- لا تعدو أن تكون محاولاتِ اجتهاداتِ وتطبيقاتِ الأسلافِ في عصرٍ من العصور، للاهتداء ببصائر الدين والسير على نهجه في أزمانهم، ولذلك فإن الجمود عليها جمودٌ على نسبةٍ من الخطأ والجهل والعجز والتقصير مهما كانت ضئيلة.
3- التفريق بين الثابت والمتغير في الدين:
وليس هذا العنوان غريباً عن أسماعنا، ولا مستهجناً في أفكارنا، ولا بعيداً عن أفهامنا، فلقد استقرّ لدى المسلمين من زمن بعيد أن الإسلام صالحٌ لكل زمانٍ ومكان، وأجمع فقهاء الإسلام على تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان والمكان، إلاّ أن المعاصرين منهم قد تهيّبوا ولوج ميدان التطبيق العملي لهذا المفهوم، الذي استقرّ في الأذهان بشكل عام، ولهم الحق في هذا التهيّب بعد الإغلاق الطويل لباب الاجتهاد، لكن لا ينبغي أن يتحوّل هذا الإغلاق إلى جمودٍ وتحجّر، بالقدر الذي لا ينبغي أن يكون فتحه مجالاً لأن يهجم على الاجتهاد كل من تحدّثه نفسه أنه قد ملَك شيئاً من الأهلية، أو حاز نصيباً من المعرفة أو الثقافة.
إن العودة إلى أهل العلم وخاصةً الراسخين منهم فيه، والاعتماد على أهل الاختصاص، وخاصةً أهل التقوى منهم، شرطٌ ضروريٌّ للنجاح في مضمار التجديد والتغيير المجدي في حياة الأمّة، ولا يمكن الاستغناء عن هذا الشرط في حال من الأحوال.
|
|