مهندس ألماني في رسالة الدكتوراه عن العمارة العراقية والكربلائية..
كربلاء الأولى على العراق في الفن المعماري
|
*حسين هاشم آل طعمة
الكتابة عن الأشكال والأنماط التاريخية للعمارة والبناء وتوثيقها بالرسوم والخرائط والصور، يُعد عملاً باهراً، ربما لا تقتصر الحاجة اليه في وقتنا الحاضر وحسب وإنما للأجيال القادمة، حيث يتطلع هذا الجيل الى مّن قبلهم؛ كيف حافظوا – من حيث التوثيق – على التراث الحضاري المعماري السائد في مدنهم في تلك الأزمنة؟ ويكون بامكانهم من خلال ذلك تقييم الجيل السابق من الناحية الفنية والثقافية.
وممن كتب في هذا المجال المهندس الألماني (أوسكار رويتر) صاحب رسالة الدكتوراه في تصاميم المباني العراقية. ومن أجل ذلك أقام في بغداد مدة ثلاث سنوات، ولم يكتف بدراسة تصاميم البناء وفن العمارة في بغداد بل توجه الى كربلاء والحلة والنجف والأرياف التي حولها، لتكون دراسته أكثر شمولية ودقّة، وقد ذكر في كتابه القيّم (البيت العراقي في بغداد ومدن عراقية أخرى) إنه قام شخصياً بالتقاط الصور لبعض المباني، وإن تعذر عليه ذلك قام برسمها بشكل تخطيطي، هذا عدى الجزء الآخر من الكتاب الذي استند فيه على إتصلاته باساتذة البناء المحليين المعروفين في العراق بلقب (الاسطوات)، حيث قدموا إليه معلومات وآراء شفهية وخطية حول فن البناء والمعمارية العراقية. وقام بنفسه بقياس الأبعاد الأساسية للمباني التراثية. إلا إن الشيء الذي لم أستطع أن أتوصل اليه بشكل قطعي هي الأعوام الثلاث التي قضاها المهندس رويتر في العراق، ولكن من خلال قراءة كتابه (البيت العراقي) والذي صدر في برلين مؤرخاً، فقد جاء في ذيل المقدمة تاريخ آب 1909م، ويمكن من هذا التاريخ أن نحدد الثلاث سنين التي أقامها في العراق والتي كانت ما قبل هذا التاريخ، أي في الأعوام 1906 و1907 و 1908، وقد أمضى هذه الأعوام الثلاث المتصلة في بغداد يدرس مبانيها التاريخية وكان يزور بين فترة وأخرى مدن الحلة والنجف وكربلاء والأرياف المحيطة، وكان لكربلاء الحصة الأكبر في تلكم الزيارات لما لهذه المدينة المقدسة من خصوصية دينية و روعة في الفن المعماري قلما يوجد في مكان آخر، حيث تتداخل العمارة الجميلة المختلفة من عدة شعوب أسلامية.
*شبابيك (الأرسي)
ذكر (رويتر) أشكال المخطط العام للبيت السكني في المدينة وعرّف أشكال الغرف، كما عرّف الشباك وأسماه كما في اللهجة الدارجة بـ(الأُرسي) وهي كلمة فارسية الأصل وهو الشباك الزجاجي في البيوت القديمة المطل على فناء الدار، ويكون غلقه وفتحه من خلال حركة انسيابية من الأسفل الى الأعلى، أو بالعكس.
واللافت للنظر هو أن هذا النوع من الشبابيك معتمد في بيوت كربلاء أكثر مما هو موجود في مدينة بغداد والكاظمية وسائر المدن الأخرى وهذا ما عبر عنه (رويتر) بما نصه:
وأخيراً تطلق التسمية أيضاً على نوع الغرفة التي يكون لها بدلاً من الشباك المنزلق الكبير عدد من الأبواب الزجاجية ذات الدرفتين، وهذا النوع الأخير بشكل خاص في الكاظمية وكربلاء... ويضيف أيضاً: في غرف الأرسي العادية يوجد الشباك المنزلق في الجهة العريضة من الغرفة الواقعة في جهة الطارمة ويشغل غالباً الضلع العريض بكامله بحيث يتطلب الأمر وضع الأبواب في الأضلاع الضيقة من الغرفة، و هناك نموذج آخر تكون فيه قطعة جدارية تفتح فيها الأبواب، وهذا النموذج موجود كثيراً في كربلاء.
*الشبابيك البارزة (الشناشيل) ذو الطابقين:
تشتهر البيوت العراقية القديمة بالشبابيك البارزة المطلة الى الخارج باتجاه الشارع والتي تسمى بـ (الشناشيل) وفي ص19 يقول (رويتر): والتفسير اللغوي الشعبي لكلمة (الشناشيل) هو (شاه شين) أي (مقر الملك). ويضيف (رويتر): ومصطلح الشناشيل بحيث يسمى (الشناشيل أرسي) أيضا ًولكن العكس غير وارد اطلاقاً إلا إذا كان هناك تداخل فعلي بين النموذجين.
وفي ص 135-136 يصف الكاتب بإسهاب كيفية تصميم الشناشيل في المدن العراقية، إلا أن الملفت للنظر إن في مدينة كربلاء توجد بعض البيوت تكون الشناشيل فيها بطابقين والطابق الثاني منها يكون أكثر بروزاً من الأسفل. وهذا النموذج من الشناشيل الكربلائية لم يذكره (رويتر) أو يصوره في أي مدينة عراقية أخرى وحتى العاصمة بغداد.
*كربلاء تنفرد بالشناشيل ذي الجانبين
الشناشيل من الجانبين، يُعد نوعاً من التصميم الرائع في ذلك الوقت وهذا النوع من تصميم الشناشيل انفردت به بعض البيوت في كربلاء فقط دون غيرها من الدور في المدن العراقية بما في ذلك العاصمة بغداد. وفي ص 56-57 جاء عن (رويتر) ما نصه: أغنى الواجهات موجودة في القسم الجديد في كربلاء فضلاً عن التشكيلات المذكورة حتى الآن نجد هناك إغناء لواجهة الشارع بإضافة الأعمدة الشائعة في فارس وفي بعض المدن الهندية (أحمد آباد) التي تشكل ما يشبه الروامد أو مداخل التعريشة والمقصورات (اللوجات) المفتوحة بين بروزي الجناحين، وكما في كربلاء.
وبعد المراجعة والتدقيق لم يذكر (رويتر) في كتابه أي مدينة غير كربلاء فيها نموذج من الشناشيل ذي الجانبين يتوسطها شباك وسطي مع أعمدة ذات طريقة هندية لإسناد هذه الشناشيل البارزة من الجانب الأيمن والأيسر من الدار، وعبارة رويتر القسم الجديد في كربلاء يقصد محلة (الجديدة) أو (العباسية) التي أنشأها الوالي المصلح مدحت باشا ما قبل سنة 1900م.
ومن هذا المنطلق يمكن القول أن تصاميم الشناشيل في كربلاء هي أجمل و أروع من بقية الشناشيل في العاصمة أو في بقية المدن العراقية وذلك حسب ما جاء في كتاب (رويتر) خلال مدة اقامته في العراق.
الطارمة:
وهي أشبه ما تكون بالشُرفة لكنها صغيرة وجميلة، وتكون على مفترق اتجاهات نحو غرف البيت في الطابق الثاني، وفي وصفه لما يعرف بـ (الطارمة) يقول رويتر: هناك تكوين آخر لبيت الطارمة نجده في بيوت كربلاء والنجف والكاظمية، ويتخذ (رويتر) من بيوت كربلاء بيت الأميرة الهندية السيدة (تاج دار باهو) والكائن جهة شارع السدرة كنموذج جميل ورائع للبيت الكربلائي واصفاً تصاميم البيت بشكل مسهب ومطول. حتى يقول في ص27: طراز البيوت الكربلائية المؤلفة من طابقين مع طارمة وسطية عالية من طابق واحد هو الى حد ما تطبيق لنظام (الكبشكان) على جميع الغرف مع زيادة ارتفاع الطابق الى 3 أمتار على الأقل.
والملاحظة في كلمة (الكبشكان) وهي لفظة فارسية دارجة آنذاك تعني المكان المخصص لخلع الأحذية وهو اصطلاح قديم غير مستعمل حالياً. علماً إن المصطلح المستخدم لهكذا مكان في الوقت الحاضر في العراق هو (الكيشوان)، وهي أيضاً لفظة فارسية مركبة من (كفش) أي حذاء، و(إيوان) أي الصالة.
نموذج الشناشيل المتصلة بشكل جانبي:
ومما لاحظه (رويتر) وخاصة في كربلاء إن بعض البيوت ذات المساحة الكبيرة تكون الشناشيل المطلة الى الخارج في الغرف العلوية للدار متراصفة بشكل جانبي، وكما وصفه (رويتر) بالشكل المنشاري يقول: في ص 50 ما نصه: في كربلاء التي تجد في أحيائها الجديدة بصورة عامة شبكة من الشوارع المتقاطعة بزاوية قائمة، ولا تجد الشكل المنشاري المتدرج للطوابق العليا إلا عندما يتقاطع شارعان بزاوية أقل من 90 درجة.
ملاحظة؛ على قول (رويتر) بالأحياء الجديدة، إنه يقصد بها محلة الجديدة أو العباسية التي بناها الوالي المصلح مدحت باشا ما قبل سنة 1900م. ويضيف بقوله: تجدر الاشارة أخيراً الى أن المسلمين الأتقياء جداً يرغبون في توجيه المحور الرئيس لبيوتهم بإتجاه مكة، ولكن من الشائع عموماً رسم خط على أرض الفناء أو الطارمة يحدد إتجاه القبلة لإقامة الصلاة، وفي البيوت المشابهة للقصور يوجد غرف خاصة فيها ركن للصلاة موجه نحو مكة... ومما نلاحظه في هذا النصّ إن المجتمع آنذاك ولا سيما المجتمع الكربلائي يحرص على التزاماته الدينية وفي مقدمتها الصلاة.
*الكاشي الكربلائي:
تشتهر مدينة كربلاء بصناعة هذا النوع من الكاشي المزجج بالألوان ونقوش مختلفة والذي كان يسمى سابقاً بـ (القاشاني) وعن وصفه لهذا النوع من الكاشي جاء في ص 120 ما نصه: (البلاط الآجري المنقوش برسوم مضغوطة بواسطة قوالب خشبية نادر الوجود..)، الى أن يقول: أما الآجر المزجج أو المزين بالرسوم فلا يستعمل في بناء المساكن وإنما يخصص حصراً في بناء المساجد. ويضيف (روتر) بالقول: في بعض البيوت الفارسية في كربلاء توجد أرضيات مغطاة بالبلاط، لكن البلاط لا يستعمل لتلبيس الجدران كما إن الآجر المزجج لا يستعمل في بناء المساكن إلا في حالات نادرة جداً).
ويلاحظ من ذلك إن مدينة كربلاء ومساجدها وعتباتها المشرفة تزدهر وبشكل واضح بهذا النوع من الكاشي المعروف بـ (الكربلائي) ذات النقوش الرائعة والجميلة وكما يسميها رويتر بـ (البلاط المنقوش) وهذا النوع من العمارة هو الذي يميز مدينة كربلاء عن بقية المدن العراقية الأخرى لأنتاجها هذا النوع من الكاشي ذات النقوش المزججة الجميلة في الروعة والإتقان.
عمارة كربلاء نموذج فريد عراقياً:
هناك الكثير من النصوص التي تخص طرق البناء في كربلاء تحاشينا ذكرها خشية الإطالة وقد ذكرها (رويتر) في كتابه أو بالأحرى في رسالته التي نال بها شهادة الدكتوراه من جامعة برلين لسنة 1909 وأسماها (البيت العراقي في بغداد ومدن عراقية أخرى) وكان الأجدر به أن يسميها (البيت العراقي في كربلاء ومدن عراقية أخرى) لوفرة النصوص التي أوردها فيما يخصّ عمارة مدينة كربلاء الفريدة من نوعها عراقياً، ومن خلال هذه الرسالة الاكاديمية يمكن القول إن كربلاء كانت نموذجاً متقدماً في البناء وفن العمارة عن بغداد وبقية المدن العراقية الأخرى، وما هذه إلا شهادة موثقة من باحث أجنبي في حق هذه المدينة الحضارية العريقة، وهي الشهادة التي يجب أن تحفظ لتدلّ الأجيال على حقيقة وهوية كربلاء المقدسة قبل أن تطالها أيدي التحديث والطراز الغربي الذي عصف بالمباني الأثرية منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي، كما إن تطورات الزمن وأحداثها الجسام لم ترحم الكثير من ذلك التراث الجميل.
|
|