صفات نفسية وعقلية للتدبّر
|
*كريم الموسوي
يوماً بعد آخر تتضح الأهمية القصوى للتدبّر في القرآن الكريم واستلهام التعاليم والمفاهيم لإضاءة الزوايا المعتمة في الحياة في أكثر من صعيد مع انتشار رقعة الأزمات والظواهر الشاذة التي تهدد الانسان بالضياع والخسران وحتى الهلاك.
لكن هذا لايعني استسهال المسألة، فهناك خطوات مهمة لابد لمن يهتم بالحلول الجذرية لمشاكله وأزماته من أن يتبعها، كما هو الحال في أي مسار علمي، حيث نجد المراحل المتسلسلة التي لابد من اتباعها قبل الوصول الى النتيجة المرجوة، وبغير ذلك يكون الانسان كمن يدور في حلقة مفرغة.
هنالك نوعان من الصفات ينبغي ان يتحلى بها المتدبر في القرآن الكريم؛ الأول: صفات نفسية والثانية: صفات عقلية، وبذلك يتسنّى لقارئ القرآن الكريم من فهم آياته ومن ثم التعرف على الحقائق الكبرى التي تنطوي عليها الآيات الكريمة.
أولاً: الصفات النفسية.
1- الإيمان بانه خطاب موجه للجميع..
إنه الإيمان القلبي العميق بان القرآن الكريم كتاب أوحى به اللـه رب السموات ليكون لعباده مبشراً ونذيراً، وهادياً الى الحق باذنه وسراجاً منيراً. فلابد ان نقرأ القرآن بوصفه خطاباً موجهاً إلينا من اللـه سبحانه وتعالى، فقد جاء في الحديث: (ان في القرآن المناجاة مع الرب بلا واسطة فانظر كيف تقرأ كتاب ربك، ومنشور ولايتك، وكيف تجيب اوامره ونواهيه وكيف تمثل حدوده) (1) إذاً؛ انه وثيقة ارتباطنا بالمُبدئ المُعيد، إنه المنقذ من كل ضلالة وشقاء. جاء في الحديث: (القرآن عهد اللـه إلى خلقه فينبغي للمرء المسلم ان ينظر الى عهده).
إن القرآن الكريم قد يخاطب رسوله في نصوصه ولكنه لا يعنيه فقط، بل ويعني معه كل شخص تال له، جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق (ع): (إن القرآن نزل على لغة إياك أعني واسمعي يا جارة)، أي أنه خطاب موجه إلى الرسول (صلى اللـه عليه وآله وسلم)، ولكنه شامل ايضاً لجميع المسلمين والمؤمنين برسول الله وبكتابه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ حينما يقول القرآن: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ اللـه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ" (محمد/19)، يجب ان أبادر بالاستغفار لانه خاطبني شخصياً بذلك. وحينما يقول اللـه: "يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ..." فيجب ان استعد لتلبية امره، واقول: لبيك اللـهم لبيك ماذا تأمرني؟! وحينما يقول: "يَآ أَيُّهَا النَّاس" اقول: نعم! ماذا علينا أن نعمل؟
لقد كان اولياء اللـه العارفون يتلون القرآن الكريم بهذه الطريقة، فكانت جلودهم تقشعر وقلوبهم ترتجف حين يقرؤون آية، بل كانوا يصعقون لعظمة وقع الآية في نفوسهم. فقد تلا الإمام الصادق (ع) آية في صلاته وردّدها مرات، فصعق صعقة وقع على أثرها مغشياً عليه، فلما أفاق سُئل عن ذلك منه، قال: لقد رددتها حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته. (2)
2- الاستعداد التام للتطبيق.
هذه الصفة و الشرط، يُعد من الشروط المهمة لفهم آيات اللـه، إذ ان التسليم المسبق لنتائج البحث عن الحق يساعد النفس على البحث المجرد، بعكس الاستكبار والتردد في قبول نتائج البحث العلمي، إذ أنه يقلل من قيمة هذا البحث عند الانسان ومن ثم يصرفه عنه.
من هنا كان على الإنسان ان يجعل القرآن امامه ويسلم إليه زمام أمره قبل ان يبدأ بتلاوة آياته حسبما يصف الإمام علي (ع) المؤمن الصادق فيقول: (قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وامامه يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله). وان فريقاً من الناس يتلون القرآن فيؤوّلون آياته حسب اهوائهم ابتعاداً عن العمل بها، فهؤلاء لا يؤتون فهم القرآن ابداً، بل ان تلاوة القرآن ستزيدهم وزراً و وبالاً. إنما يؤتى علم القرآن من تواضع للحق، وسّلم للـه وفتش عن الواقع، واستعد سلفاً لاتباع الحقيقة لو انكشفت له.
ثانياً: الصفات العقلية.
1- التركيز.
إن تركيز شعاع الشمس عبر زجاجة مقعرة، هو الذي يسبب في تحويل هذا الشعاع الى طاقة جبارة. كذلك الحال في تركيز شعاع الفكر عبر نقطة واحدة سوف يضاعف من فاعلية الفكر ويكشف الحقائق بوضوح.
وبمدى اهمية التركيز تكون مدى صعوبته، إذ ان النفس تقاوم التفكّر في امر واحد عدة ثوان، ولكن على الذي يريد الفهم ان يروّض نفسه على صفة التركيز، فيظل يوجه اهتمامه الى شيء واحد عدة لحظات، حتى يعرفه.
ولهذا جاء في الاحاديث، الأمر بترتيل القرآن لانه اقرب الى التركيز من التهامه. فجاء في حديث عن امير المؤمنين (ع) انه قال في تفسير قول اللـه تعالى: "وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً" (المزمل /4)، قال: (بيّنه تبييناً، ولا تهذّه هذّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل، ولكن فزّعوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ احدكم آخر السورة). (3)
وعن الامام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية "وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً" قال: (قف عند وعده و وعيده وتفكر في أمثاله ومواعظه). (4)
2- الشجاعة.
إنها الصفة العقلية التي لابد ان يتحلى بها من شاء العلم، ذلك ان عدم الثقة بالنفس يتسبب في تردد الشخص في نتائج بحوثه، وهنا تبرز أهمية الشجاعة النفسية في قبول النتائج .
إن الحق يظهر لكثير من الناس، إلا ان القليل من يراه، والسبب هو ان اكثرهم يهاب رؤيته، ويخاف ان يتعارض مع مسبقاته الفكرية و رواسبه التقليدية، يخاف ان يتناقض مع افكار مجتمعه وبيئته، لذلك لا يقترب منه، بل يغمض جفنه إذا اقترب الحق منه. هكذا يجب ان نتحلى بشجاعة الفهم إذا اردنا ان نخوض حقل التدبر، فيجب ان نجعل الحق فوق كل شيء، فليكن معارضاً لأفكارنا السابقة، أو ليكن متناقضاً مع افكار الناس، فلابد ان نقول اننا سوف نتبعه، إنما بهذه الروح الشجاعة فقط نستطيع كشف الحقائق.
فضلاً عن هذا فإن آراء المفسرين حول الآية يجب ان لا تعيقنا عن التدبر من جديد في معناها، إذ ربما كانوا جاهلين بمعناها، او ببعض معانيها وآفاقها، لذا لابد من التعمّق والتفكّر في آيات الله المجيدة، وقراءتها دون أية مسبقات أو متبنيات داخلية أو خارجية، وهذا التجرّد بحد ذاته بحاجة الى شجاعة من صاحبه.
طبعاً هذه أهم الخطوات والشروط على طريق التدبّر في آيات الله المجيدة، وربما هناك خطوات أخرى مهمة على هذا الطريق، في كل الأحوال لابد من شقّ هذا الطريق وتنظيفه من غبار الزمن لنكون دائماً مع القرآن الكريم .
|
|