طلايع بن رُزِّيِك.. فارسُ الشعر والوغى
|
*محمد كاظم الكريطي
قلما جمع انسان بين ميزتي السياسة والادب و وُفق فيهما معاً دون ان تضر احداهما بالاخرى، والتاريخ يحفل بالكثير من الاسماء التي جمعت بينهما لكن الكثير منها ما ان اجتازت عتبة الاولى حتى تساقطت امام اعتاب الثانية، فهذا ابن المعتز الشاعر العباسي يتولى الخلافة ليوم واحد ليصبح مقتولا، وكذلك كانت نهاية الفتح بن خاقان وزير المتوكل وغيرهما، وطالت هذه العدوى حتى من لم يتسلم خلافة او وزارة سوى ما يمت عمله بصلة سياسية ومنصب بسيط في البلاط كما حدث لعبد الحميد الكاتب وابن المقفع، حتى قيل لو ان المتنبي تسلم امارة لانتهى امره كشاعر عظيم. ولكننا نجد في مقابل هذا من وفق فيهما كالصاحب بن عباد ونصير الدين الطوسي وغيرهما واضافة الى هذين العلمين نجد شاعرنا طلايع بن رُزِّيك، و رغم ان نهايته كانت قتلاً، الا ان سيرته العادلة الفاضلة وأدبه الرفيع وعلمه الواسع يحكم بأنه قد حواهما معا دون ان يضر بأحدهما، فكما ابدى مقدرة كبيرة في مسؤوليته السياسية والاهتمام بشؤون الجيش واعداده وتسيير شؤون البلاد وادارة اموره الاجتماعية، حتى لُقب بـ (الملك الصالح) و (فارس المسلمين)، فقد حاز من العلوم والآداب ما لم يدانه احد في زمانه من الملوك والامراء، فكان متكلما شاعرا وشجاعا كريما وجوادا فاضلا عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، وقد افصح عن نفسيته الكبيرة وشمائله الجميلة بقوله:
أبى الله إلا ان يدين لنا الدهرُ
ويخدمُنا في ملكنا العزُّ والنصرُ
علمنا بأن المال تُفنى ألوفهُ
ويبقى لنا من بعده الذكرُ والاجرُ
خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا
سحابٌ لديه الرعدُ والبرقُ والقطرُ
الجمع بين العلم والأدب والسياسة
ولد الملك الصالح طلايع بن رُزِّيك - بضم الراء وتشديد الزاي المكسورة- في ارمينية بأذربيجان سنة 495هـ ونشأ نشأةً كريمة وتربّى على الفضل والأدب والكمال وكبر النفس وعلو الهمة وسمو الغاية وقوة العقيدة، فكان رجل وقته فضلاً وادباً وسياسة وتدبيرا وقد أهلته ملكاته النفسية والعقلية وفضائله واخلاقه وشجاعته لان يتولى الوزارة للخليفة الفاطمي الفائز عام 495هـ فاظهر من البطولة والسياسة والحنكة اضافة الى برّه وجوده وعلمه ما لم يحزه احد قبله من الوزراء. كما تميّز شاعرنا بالتقوى والورع والعبادة. قال (المقريزي) في (خططه) ج4 ص8 في ترجمة شاعرنا: (وكان محافظاً على الصلاة فرائضها ونوافلها، شديد المغالاة في التشيع صنف كتابا اسماه (الاعتماد في الرد على اهل العناد) جمع له الفقهاء وناظرهم عليه وهو يتضمن امامة علي بن ابي طالب عليه السلام، وله شعر كثير يشتمل على مجلدين في كل فن في اعتقاده...) ثم ذكر طائفة من اشعاره في ذلك، وقال السخاوي: (جمع له بين السلطنة والوزارة وكان مجاهدا في سبيل الله وهو الذي أنشأ الجامع تجاه باب زويلة المعروف الآن بجامع الصالح وهو بظاهر القاهرة).
قاد الملك الصالح حملات عديدة لغزو الصليبيين ولم يترك طيلة عمره غزو الافرنج وتسيير الجيوش لقتالهم في البر والبحر، ولم يثنه كل هذا الجهاد في سبيل الله عن قيامه بواجبه تجاه العلم والعلماء، فقد كان يحمل في كل عام الى اهل الحرمين بمكة والمدينة من الاشراف سائر ما يحتاجون اليه من الكسوة وغيرها حتى كان يبعث اليهم الواح الصبيان التي يكتبون فيها والاقلام والمداد، كما كان مدافعا صلباً عن المذهب الحق مذهب اهل البيت عليهم السلام بيده ولسانه فكان يجمع الفقهاء ويناظرهم حول الامامة و (القدر).
أدب الولاء
سخّر أدبه وشاعريته لعقيدته الراسخة و ولائه لأهل البيت عليهم السلام، فقد حمل شعره دائماً طابع الولاء وتأرّج بعبق الولاية وله في مدح الائمة الطاهرين ورثائهم قصائد مطولة كثيرة منها قوله:
آل النبي بهم عرفنا مشكل
القرآن والتوراة والانجيل
هم اوضحوا الآيات حتى بيّنوا
الغايات في التحريم والتحليل
عند التباهل ما علمنا سادساً
تحت الكسا معهم سوى جبريل
فهو مستميت في حبه لهم عليهم السلام وقد آلى على نفسه قتال اعدائهم:
آ ليت لا ألقى عداة ائمتي
إلا بعضب الشفرتين صقيل
ويقول في لامية أخرى:
فلا يطمع الاعداء فيّ فأنني
لي الله بالنصر المبين كفيلُ
اقول: لهم ميلي الى آل احمدٍ
وما أنا ميّال الوداد ملولُ
لأن لهم في كل فضلٍ وسؤددٍ
فصولا عليها العالمون فضولُ
ويسترسل في قصيدته حتى يصل الى مقتل الحسين عليه السلام فيقول:
علام قتلتم بضعة من نبيكم
وتدرون ان الرزء فيه جليلُ
ضحكتم واظهرتم سروراً وبهجةً
بيوم به نجل البتول قتيلُ
قتيل شجى الاملاك ما فعلوا به
واظهر اسحان الجياد صهيلُ
ومن حقهم ان تخسف الارض للذي
اتوه ولكن ما الحكيم عجولُ
وفي عينية مبكية يتعرض الى الحوداث والآلام التي جرت على أهل البيت عليهم السلام يقول:
يافعلة جاؤا بها
في الغدر فاضحة شنيعه
خاب الذي اضحى الحسين
لطول شقوته صريعه
أفذاك يرجو ان يكون
محمدٌ أبدا شفيعه
وفيها يقول:
تحت السقيفة أضمرت
ما بالطفوف غدت مذيعه
فلذاك طاوعت الدعي
وكثّرت منه جموعه
بجيوش كفر قد غدا
ذاك النفاق لها طليعه
كما حملت اغلب قصائده واقعة الطف وما جرى على سبط الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، يقول في نونيته:
في كربلاء ثوىً ابن بنت
رسول رب العالمينا
قف بالضريح وناده
ياغاية المتوسلينا
مولاي جسمك ضرجته
دماً سيوف القاسطينا
لهفي عليك وحسرتي
تبقى على مر السنينا
مهمة بأمر مباشر من أمير المؤمنين (ع)
وشعره فيهم عليهم السلام يحتاج الى دراسة مطولة لكثرته وجودته، ومما يدل على مدى إيمان عقيدة شاعرنا وصدق ولائه وحبه لاهل البيت عليهم السلام، ما روى انه لما زار مشهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام مع اصحابه وقبل ان يتولى الوزارة، وباتوا هناك رأى السيد ابن معصوم إمام المشهد آنذاك، وكان سيدا شريفا جليلا عظيم الشأن، أمير المؤمنين عليه السلام في المنام يقول له: قد ورد عليك الليلة اربعون فقيرا من جملتهم رجل يقال له: طلايع بن رزِّيك من اكبر محبينا فقل له: إذهب الى مصر... فقص عليه السيد ابن معصوم رؤياه، وفي الحال نفذ بن رُزّيك الأمر و رحل الى مصر، وهناك حصل أن قتل نصر بن عباس، الخليفة الظافر اسماعيل فاستثارت نساء القصر لاخذ ثاراته بكتاب في طية شعورهن، فحشّد طلايع الناس لقتل الوزير القاتل، فلما اقترب من القاهرة فرّ نصر ودخل طلايع المدينة بسلام، وخلعت عليه الوزارة ولقب بالملك الصالح وبيّن هذه الحادثة في قوله:
بحب علي أرتقي منكب العلى
و أسحبُ ذيلي فوق هام السحائبِ
إمامي الذي لما تلفظتُ باسمه
غلبت به من كان بالكثر غالبي
تولى الملك الصالح الوزارة للخليفة العاضد بعد وفارة الفائز وتزوج العاضد من ابنته، و روي عن الملك الصالح الحادثة المشهورة مع رأس الحسين عليه السلام. فقيل انه لما أمر يزيد ان يطاف بالرأس الشريف في البلاد وانتهى الى عسقلان فدفنه اميرها بها، فلما غلب الافرنج عليها افتداه منهم الصالح طلايع وزير الفاطميين بمال جزيل ومشى الى لقائه من عدة مراحل ووضعه في كيس حرير اخضر على كرسي من الابنوس وفرش تحته المسك والطيب وبنى عليه المشهد الحسيني المعروف بالقاهرة وهذا القول من جملة اقوال عديدة حتى قيل:
لا تطلبوا رأس الحسين فانه
لا في حمى ثاوٍ ولا في وادِ
لكنّما صفو الولاء يدلكم
في انه المقبور وسط فؤادي
واضافة الى شعر طلايع الولائي فله شعر كثير في المحاججات والمناظرات مع المخالفين كقوله
يا أمة سلكت ضلالاً بيّنا
حتى استوى اقرارها وجحودها
قلتم ألا ان المعاصي لم تكن
إلا بتقدير الإله وجودها
لو صح ذا كان الاله بزعمكم
منع الشريعة ان تقام حدودها
حاشا وكلا ان يكون الهُنا
ينهى عن الفحشاء ثم يريدها
النهاية.. شهيداً
قضى شاعرنا عمره كله بين الجهاد في سبيل الله والدفاع عن المذهب ودحض شبهات المخالفين ورعاية العلم والعلماء حتى حيكت حوله الدسائس والمؤامرات فأرسلت له عمة الخليفة العاضد من قتله بالسكاكين غيلة! ولم يمت من ساعته وحمل الى بيته وارسل يعتب على العاضد فاعتذر وحلف انه لم يكن يعلم بما دبُر له، وارسل الى عمته من قتلها، ثم مات شاعرنا في 19 من شهر رمضان سنة 556هـ ودفن بالقاهرة وتولى ابنه العادل الوزارة مكانه للخليفة العاضدـ وروي انه لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها قال: هذه الليلة ضرب في مثلها الامام امير المؤمنين عليه السلام، وأمر بقراءة مقتله عليه السلام واغتسل وصلى مائة وعشرين ركعة احيا بها ليله وخرج في الصباح ليركب فعثر و سقطت عمامته واضطرب لذلك فاصلح عمامته فقال له رجل: ان هذا الذي جرى يُتطير منه، فأن رأى مولانا ان يؤخر الركوب فقال: الطيرة من الشيطان وليس الى التأخير سبيل، ثم ركب فكان من امره ما كان وبكاه الناس كثيرا ورثته الشعراء منهم الفقيه عمارة اليمني فكان من رثائه:
أفي اهل ذا النادي عليهم أُسائله
فاني لما بي ذاهب اللب ذاهله
سمعت حديثا احسد الصمّ عنده
ويذهل داعيه ويخرس قائله
فهل من جواب يستغيث به المنى
ويعلو على حق المصيبة باطله
|
|