الاتجاه التجديدي
في مراثي الحسين (ع)
|
* علي حسين يوسف
كانت مراثي الإمام الحسين (ع) في النصف الأول من القرن العشرين نتاج أمرين هما:
1- إن تلك المراثي كانت امتداداً طبيعياً لما سبقها من مراثٍ في العصور السابقة.
2- ارتباطها بالمرحلة التاريخية التي مر بها العراق في الحقبة المحصورة بين 1900 – 1950 لذا كان من الطبيعي أن تتضمن تلك المراثي سمات كثيرة من الموروث الشعري في الوقت الذي كانت مثل صورة لواقع اجتماعي وسياسي كان بمنزلة الحاضنة الفكرية للشعراء.
وربما لا يمكن الجزم بترجيح أحد هذين العاملين على الآخر في قوة حضوره وشدته في مراثي هذه الحقبة، ولعل ما أفرزت هذه الحقبة من مراث يسمح لنا بالقول: إن تلك المراثي كانت كالبوتقة التي انصهر فيها الماضي بالحاضر.
وليس من المستبعد أن يشعر القارئ لمراثي عبد الحسين الحويزي والسيد رضا الهندي وقاسم محي الدين وغيرهم من شعراء هذه الفترة وكأنه يقرأ مراثي الكميت أو الشريف الرضي أو السيد حيدر الحلي فربما تشابهت الأفكار والاخيلة والاساليب على الرغم من تباين الظروف، فلا ننسى أن لشعراء الشيعة مدرسة خاصة تميزت بالنفس العربي الخالص، وضع ركائزها، وشيد أركانها شعراء كبار أمثال: الكميت الاسدي ودعبل الخزاعي والشريف الرضي، واستمرت في العطاء الى يومنا هذا فلا غرابة بعد ذلك من وجود هذه التقاربات الموضوعية والفنية بين شعرائها.
وفي مقابل هذا الإتجاه التقليدي، كان هناك إتجاه آخر في رثاء الإمام الحسين (ع) يسير الى جانب الإتجاه الأول، أو يتداخل معه أحياناً، يمكن أن نطلق عليه (الاتجاه التجديدي).
وكان هذا الاتجاه في الرثاء الحسيني جزءاً من اتجاه عام ساد الشعر العراقي بعد مطلع القرن العشرين نتيجة لعوامل ساعدت على ظهوره، من هذه العوامل ما هو عام شمل المنطقة العربية، وتمثل النهضة الأدبية العربية، ونشوء تيار يهدف الى احياء التراث العربي، فبعد أن وقعت المنطقة العربية تحت الاحتلال الأوربي، ظهر الوعي الوطني واضحاً، متمثلاً في الثورات بوجه المحتلين وخاصة ثورة (1920) في العراق، مما كان عاملاً مهماً في نشوء أدب منغمس في قلب الأحداث. وكان الأدب بشكل عام وخاصة الشعر قد ابتعد عن خدمة السلطان والوالي والحكومة، واتجه للشعب وخدمته، واصبحت للشعب منزلة محترمة، وبدأ الشعراء وقادة الرأي في معالجة مشكلاته الاجتماعية والسياسية، لرفع شأنه وخلق شعب قوي صحيح، غني ومثقف. واصبحت قضايا الشعب تجد صداها في أكثر الاغراض الشعرية، وخاصة في مراثي الإمام الحسين (ع) عند الشعراء الذين آمنوا بشخصية الأمام الحسين (ع) والتي وجدوها خير ملهم لشعب ينشد استقلاله، وليعيش برفاهية وسلام، حتى اصبح سمة واضحة عند الشعراء. فلم يعد الإمام الحسين (ع) موضع بكاء فحسب عند أغلب الشعراء، وإنما اصبح موضوع تأمل وتوظيف لخلق حالة من الوعي في نفوس الناس تستمد قوتها من صلابة موقف الإمام في كربلاء. يقول محمد صالح بحر العلوم:
قسماً بيومِكَ وهو في تاريخنا دامٍ سنبقى لا نهادنُ أحوبا
نمشي على هدي الأُباة ونزدري بالنائباتِ ولا نفوِّتُ مطلبا
ونقود ركبَ الشعبِ لاستقلالهِ حتماًَ وإن تكن المشانق مركبا
ولنا الشهادة في سبيل دفاعنا عن حقنا كالشهد تحلو مشربا
فالموتُ في طلبِ الكرامة منهلٌ عذبٌ، وميْتٌ من يعيش معذَّبا
يحاول الشاعر استمداد عزمه من عزم الإمام الحسين (ع) ففي سبيل الاستقلال ترخص النفوس وتستهين المشانق، كما استهان الإمام الحسين (ع) بالموت في سبيل العقيدة.
وإذا كان بحر العلوم يستسهل الموت في سبيل حرية الشعب، فإن طالب الحيدري يرى في تاريخ الإمام الحسين (ع) انشودة لكل الثائرين حينما يقول:
دم الإمام الشهيد نورٌ لنا وتاريخه نشيدُ
تصيح أيامه علينا تحررّوا أيها العبيدُ
سدنا على غيرنا قديماً واليوم قد سادنا المسودُ
فأين تاريخنا المجيد وأين ايماننا الوطيدُ
ألا حسامٌ ألا قناةٌ ألا حصاةٌ ألا عمودُ
إذ يرى الشاعر أن تاريخ الإمام الحسين (ع) الذي ضحى بنفسه وسقط صريعاً يمثل موقفاً رافضاً يستنكر على الشعب سكوته في ظل الاحتلال الاجنبي.
أما صالح الجعفري فيرى أن الشعب قد خان مبادئ الإمام الحسين (ع) حين سكت عن جرائم اليهود في فلسطين، حين قال:
أعزز عليك أبا الفداء بأننا خنّا بنيكَ قرابةً وجوارا
ما ذرَّ منهم ثابت في تربةٍ إلا شحذنا منجلاً وشفارا
أمِنو اليهودَ وغدْرهم لكنهم لم يأمنونا مسلمين نصارى
فالشاعر يسمو بشعوره الاسلامي والقومي لتكون فلسطين هاجسه حينما يتذكر مأساة الحسين (ع)، وكأن التاريخ يعيد نفسه حينما يستحضر الشاعر موقف الإمام الحسين (ع) الذي كان من أجل عزة الاسلام والمسلمين.
أما عبد الحميد السماوي، فإنه يستنهض العراقيين في احدى مرثياته الحسينية قائلاً:
فهلمَّ يا ابن الرافدين وإن هما جفّا أفاضَ لك الشعور روافدا
لا زلت مضطرب الهواجس صامت ال أعضاء تستوحي خيالاً شاردا
خفَّض عليك فلا أراك بحاجةٍ حتى تقيمَ على نبوغك شاهدا
كم صرخةٍ صعّدتها فتقاطرت خطباً يرن بها الصدى وقصائدا
يأبى الشاعر على العراقيين اذعانهم لغيرهم، وهم أصحاب ذلك التاريخ الطويل الشاهد على نبوغهم الحضاري.
أما الشيخ عبد الغني الخضري فيبدي أسفه لأن الأمة تهاونت في تطبيق مبادئ الإمام الحسين (ع)، يقول عبد الغني الخضري:
ابا الشهداء لك قد اضعنا تعاليماً قد ازدهرت خلالا
كأدارج الرياح مضت هباءً وقد عادت بأجمعها خيالا
كإن من أجلها ما ذقتَ مرّاً وما صافحتَ أسيافاً صقالا
فكم كسر العدى لك من ضلوع وكم لك من دم في الارض سالا
قضيت العمرَ في جدٍ وسعي تناضل دائماً عنها نضالا
فوا أسفا على تلك المبادئ اضعناها فضيعنا الكمالا
فالشاعر يقرن تطبيق مبادئ الثورة الحسينية بكمال الأمة، لكنه يبدي أسفه لحالها، بعد أن أهملت خطى سيد الشهداء فضيّعت بذلك شيئاً من كرامتها.
أما الدكتور ابراهيم الوائلي في احدى مرثياته الحسينية فأنه يتساءل عن تاريخ مضاع، وعدل عبثت به الأهواء، فيقول:
صهر النبوة إن العدل قد عبثت به المطامع واجتاحته أهواءُ
أين الجهاد الذي كانت مواكبه خفّاقة النصر يحدوهنّ أكفاءُ
وأين سيف هوى والموت ضربته وطعنة في مدبِّ الشر نجلاءُ
قل للكتائب تنهضْ من مراقدها فقد خلت من صهيل الخيل بيداءُ
فالشاعر هنا يدعو الى الجهاد لاستتباب العدل واحقاق الحق.
وقد يصل الشاعر بتأمله لواقع الثورة الحسينية الى ابعاد ذاتية عميقة تعبر عن فلسفة الشاعر الوجدانية، وموقفه تجاه قضية الحسين (ع)، يقول محمد مهدي الجواهري:
تمثّلتُ يومكَ في خاطري ورددّتُ صوتكَ في مسمعي
ومحّصتُ أمرك لم أرتهب بنقل الرواة ولم أُخدعِ
وقلتُ: لعلّ دويَّ السنين بأصداء حادثك المفجعِ
وما رتّل المخلصون الدعاة من مرسلين ومن سجّعِ
**********
الى أن أقمت عليه الدليل من مبدأ بدمٍ مشبعِ
فأسلم طوعاً اليك القياد واعطاك اذعانةَ المهطعِ
فنورّتَ ما أظلم من فكرتي وقوّمت ما أعوجَّ من أضلعي
وآمنت ايمان من لا يرى سوى العقل في الشكِ من مرجعِ
بأن الاباءَ ووحي السماءِ وفيض النبوةِ من منبعِ
تجمع في جوهر خالصٍ تنزّه عن عرضِ مطمعِ
فالجواهري يريد أن يكون ايمانه بقضية الإمام الحسين (ع) ايمان عقل، لا ايمان عاطفة فما يراه من ترتيل المخلصين ونواح النساء ليس كافياً لأن يكون دليلاً يركن اليه الشاعر ثم أنه على وعي بما فعلته السياسة لقرون طويلة فيتولّد عنده الشك لذلك لكنه ليس شك مرتاب بل هو الشك الموصل الى الحقيقة وحينما ثبت لديه الدليل المتمثل بالمبدأ الحسيني الذي روي بدماء الشهداء آمن الشاعر ايمان مخلص لا ايمان اغراض ومطامع.
وقد إتسم (الاتجاه التجديدي) هذا بالهدوء واللهجة المتزنة ولنا في قصيدة السياب (خطاب الى يزيد) مثال على ذلك، يقول فيها:
مثّلتُ غدركَ فاقشعرَّ لهوله قلبي وثار وزلزلت أعضائي
واستقطرت عيني الدموعَ ورنّقت فيها بقايا دمعةٍ خرساءِ
يطفو ويرسب في خيالي دونها ظلّ أدق من الجناح النائي
حيران في قعر الجحيم معلّق ما بين ألسنةِ اللظى الحمراءِ
أبصرت ظلّك يايزيد يرجّه موجُ اللهيب وعاصف الأنواءِ
رأسٌ تكلّل بالخنا و اعتاض عن ذاك النضار بحيةٍ رقطاءِ
ويدان موثقتان بالسوط الذي قد كان يعبث أمس بالأحياءِ
فالشاعر يوجه اللوم الى يزيد، مشيراً الى صفة الغدر، وربما كان ذلك إيماءة من الشاعر الى غدر معاوية في صفين، واصلاً بين ذلك الفعل الشنيع وصورته وهو يراه معلّقاً في قعر جهنم جزاءً لما ارتكبه.
ومثلما لم يكن الاتجاه تقليدياً محضاً، فإن الاتجاه التجديدي قد شابته احياناً ملامح التقليد ففي قول الجواهري:
فداءٌ لمثواكَ من مضطعِ تنوّر بالأبلجِ الأروعِ
بأعبق من نفحات الجنان روحاً ومن مسكها أضوعٍ
ورعياً ليومكَ يوم الطفوف وسقياً لأرضك من مصرعِ
أثر واضح بصورة القدماء فعلى الرغم من الصورة الجديدة التي جاء بها الجواهري في هذه المرثية إلا أنه ظل متأثراً بالصور القديمة، فالدعاء بالسقي والرعي ما زال ماثلاً وكان من عادة القدماء الدعاء بهما نظراً لقلة موارد الماء في الجزيرة العربية، يقول ذو الرمة:
ألا يا أسلمي يا دار ميَّ على البلى ولازال منهلاً بجرعاتكِ القطرُ
وحتى حينما يقول الجواهري:
شممتُ ثراك فهبَّ النسيم نسيم الكرامة من بلقعِ
وعفّرتُ خدّي بحيث استراح خدُّ تفرّى ولم يضرعِ
فإن هذه الصورة قد وردت فيالشعر القديم، فما يشبه هذا القول، قول الشريف الرضي:
شممتُ بنجدٍ شيحةً حاجريةً فأمطرتها دمعتي وأفرشتها خدي
واستناداً الى ما تقدم يمكن القول بأن مراثي الإمام الحسين (ع) عند الشعراء المجددين كانت أدباً ملتزماً فقد تبنت قضايا الجماهير، وعبرت عن همومها، فاذا كان الالتزام مرتبطاً بالعقيدة منبثقاً عنها من شدة الايمان بها فإن القضية التي آمن بها هؤلاء قضية الشعب وأن شعراء النصف الأول من القرن العشرين كانوا على وعي بأن الأدب قادر على تحريك الطاقات الكامنة في الجماهير، ومن ثم فإن الالتزام عند هؤلاء يعني المشاركة في القضايا السياسية والاجتماعية إدراكاً منهم بالمسؤولية تجاه الجماهير، فجاءت مراثيهم مزيجاً من الرثاء واستنهاض الجماهير وزرع الثقة في النفوس بربط الماضي بالحاضر لإضفاء القوة والثراء عليه، فكان الإمام الحسين (ع) المعادل الموضوعي لذلك الماضي العريق فهو رجل دين لا طائفة معينة وهو كذلك رمز لكل قيم الخير والعدالة.
|
|