قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

المواطن بين ن الكرامة والاستجداء
محمد علي
اهتم الإسلام بحق الحياة للإنسان واعتبره حقاً مقدساً لا يجوز التفريط به ومن أجل حفظ النفس الإنسانية تبنت التعاليم الإسلامية حرمة حياة الإنسان وحفظ هذه الحرمة ومنع الاعتداء عليها بالقتل أو الإيذاء حيث حرمت الشريعة الإسلامية قتل الإنسان واعتبرت ذلك جريمة موجهة بحق الإنسانية كلها، وفي المقابل جعلت الشريعة حفظ النفس بأنه حفظ للإنسانية، ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة حيث يقول ربنا عز وجل: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَاْ بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" .
ولما كان الإسلام يقوم على احترام النفس الإنسانية وحفظها وتكريمها فإن قيم الإسلام وتعاليمه اهتمت بحق آخر لا يقل أهمية عن حق الحياة، ألا وهو الكرامة، والغاية من ذلك امتلاك الإنسان بما هو إنسان للشرف والعزة والاحترام والتوقير فلا يجوز انتهاك حرمته وامتهان كرامته حتى ولو من قبل نفسه فضلاً عن الآخرين فالإنسان مخلوق كرمه الله سبحانه وتعالى وفضله على كثير من خلقه، حيث يقول سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" .ودعا الإسلام إلى احترام الكرامة الإنسانية واعتبر ذلك أحد العوامل الأساسية في نهضة المجتمعات وتقدمها لأن "الدين المعاملة" كما يقول رسول الله وفي الوقت ذاته نبذت تعاليم الإسلام كل فعل أو سلوك من شأنه الحط من كرامات الناس وإهانتهم أو إذلالهم. وحينما نتحدث عن الكرامة الإنسانية فإنه لا يمكننا ذلك بمعزل عن البيئة أو المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان حيث أن احترام هذه الكرامة أو انتهاكها يعتمد بالدرجة الأولى على قواعد الحياة المشتركة في أي مجتمع وهذا يقودنا إلى الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه السياسة في هذه القضية والمسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع في احترام الكرامة الإنسانية والدفاع عنها.
إن كل نظام تمثل في سلطة أو دولة ينبغي عليه أن يكون في خدمة مواطنيه ليتوفر لهم كل ما يحتاجونه لكي يعيشوا حياة إنسانية كريمة ابتداء من الطعام والغذاء والمسكن والحق في العمل وانتهاء بالحق في اختيار الحياة التي يريدها الناس اختياراً حراً مسؤولاً. إن الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بكل صورها وابعادها، ليس صدقة ولا منّة من أحد، وإنما هي حقوق كفلتها الشرائع الدينية والقوانين الإنسانية. وتتمايز الدول المتقدمة في عالم اليوم بأنظمتها من خلال قدرتها على الالتزام بالمحافظة على صيانة كرامة مواطنيها وعدم تعرضهم لأي نوع من الإهانة ليس في داخل أوطانهم فحسب بل حتى في خارجها، ونلاحظ كيف أنها سبقتنا في كثير من الميادين إن لم نقل جميعها بفضل احترام المواطن والمحافظة على كرامته، من خلال بناء قواعد العلاقة بين جميع مكونات النسيج الوطني على أساس العدالة و الكرامة لا الاستجداء وحقوق المواطنة لا الاستعداء.
فماذا يعني أن يعيش الانسان محروما معوزا بلا عمل كريم وتركه فريسة البطالة وذل الحاجة غير انتهاك لكرامته وقتل لشخصيته؟،وماذا يعني كون الانسان محروما من الحصول على سكن لائق غير انتهاك لكرامته؟،وماذا يعني التمييز بين إنسان وآخر بلا مبرر غير انتهاك للكرامة الإنسانية؟، وماذا يعني استجداء المواطن لحقوقه غير انتهاك لكرامته؟.
لقد حولت السياسات الهوجاء في العقود السابقة، والسياسات الخاطئة بعد ذلك في مختلف المجالات ، الخدمية والادارية، في الاسكان، والبطالة، ومكافحة الفقر، والصحة و... حولت المواطنين إلى طوابير من المتسولين على أبواب الدولة .. بدلا من حفظ كرامتهم وحقوقهم ونيلها بعدالة وانصاف. إن الاستعاضة عن ثقافة الحقوق والكرامة والعدالة بثقافة المكرُمات والمنح والاستجداء لا تبني الأوطان بل تدمرها ولا تنهض بالمجتمعات بل تزيد في إهانة المواطن وكأنه يطلب منّة أو فضلاً مع إن المنطق يقول أن المواطنين أصحاب حقوق أقرتها الشرائع السماوية وكفلتها الدساتير والأعراف الإنسانية. لقد حان الوقت لكي تدرك الدولة أن عليها أن تنتقل من مرحلة اعتادت فيها أن تنظر إلى المواطن إلى أنه مجرد (رعية) عمياء صماء بكماء و(خِولاً) للسلطان والحاكم ورموز واحزاب وتكتلات النظام ، اعتاد على تنفيذ الأوامر والانصياع المطلق.. إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة المواطن التي يتحدد كيانه بمجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة، وأن هذا المواطن وبهذه المواصفات يمكنه أن يمارس دوره بشكل حقيقي وفاعل في بناء مجتمع العزة والكرامة. والله من وراء القصد.