قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

مع ضعف المشاركة الشعبية واستعلاء نُخب السلطة.. أزمات تستولد أخرى
محمد علي
ليس بعيداً أن يبقى الجدل دائراً ومفتوحاً حول الكثير من القضايا السياسية لوقت طويل وهذا ما يكشفه الواقع السياسي والاجتماعي، فمن مقالات ولقاءات الصحافة والفضائيات وتقاريرها إلى ما يدور في الاجتماعات والمجالس وصولا حتى الى (الكيات والستوتات)، من أحاديث ذات شؤون ترتبط بالقضايا المباشرة التي يعاني منها الناس إلى ما يصرح به المختصون والمتصدون في الشأن السياسي أمام الصحافة أو في الندوات والملتقيات السياسية.. ولا شك أن الواقع السياسي الجديد ما بعد مرحلة البعث والكبت والسجون والقتل تحت التعذيب قد أعطى مساحة للناس لكي يعبروا عن رأيهم في القضايا المختلفة إلى حد ليس بالقليل، بغض النظر عن الاستماع لرأي الناس أو الأخذ به من قبل السلطة.
وفي الحقيقة فإن القضايا التي يعاني منها الناس تستدعي هذا الجدل الدائم والمفتوح فلا يمكن أن تلوم أحداً من الناس في هذا البلد لأنه يتكلم عن أزمات "تستولد" أخرى، حتى وصل الحال بالبعض أن يرفع الراية البيضاء أمام هذا الواقع مستسلماً لقدره باستحالة القضاء على هذه الأزمات التي جعلت البلاد تسير عكس الاتجاه حتى بالنسبة لجيرانها فضلاً عن العالم المتقدم، وكيف يمكن أن تلوم الناس وهم يرون أزمات طاحنة تعصف ببلادهم كأزمة الكهربا ء والخدمات عموما، او ازمة البطالة أو أزمة الفقر أو أزمة الإسكان او ازمة الفساد المالي والاداري، أو غيرها من أزمات في بلد يبدو لمن يتحدث عنه وكأنها أزمات لدول كبرى أو قارة من القارات. وفي الحقيقية أن كل ذلك متولد بدرجة واخرى من ازمة السياسة والادارة.
والغريب أن السلطة تلوم الناس على ماتعتبره قصور الفهم عندهم تجاه بعض الأزمات، أو عدم انسجامهم مع أزمات يرونها كذلك، بينما السلطة قد ترى فيها انجازات لا تُضاهى !، فما المانع مثلا أن يبيع الشباب الخريجون الطماطة والبصل او يحفروا الشوارع بالقزمات في مشاريع المجاري والارصفة التي تنفذها الدولة، فهي كثيرة جدا بحيث بات السؤال ليس : متى سيتم سينتهي هذا المشروع او ذلك؟ بل: متى سيعاد الحفر من جديد في نفس الموقع والمشروع ؟. او ما المانع أن يذهب هؤلاء الخريجون إلى أي دولة ومكان آخر بحثاً عن الوظيفة ويتركوا مكاناً للآخرين ممن لاخبرة ومحصل لهم سوى (المحسوبية والواسطة والانتماء السياسي)، من باب التضحية والتسامح.
وهكذا ايضا، لماذا يلوم الناس السلطة في ما يرتبط بالكهرباء، في حين بأستطاعتهم تقضية فصل الصيف من كل عام على سواحل لبنان مثلا او في سوريا او ايران لكي ينعموا بتيار كهربائي طوال اليوم. او لماذا يشكوا الناس ويلوموا السياسيين والسلطة على الفقر مع أنهم (الناس) السبب في ذلك، فهم لم يدعموا العاطلين ولم يشاركوا في الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر، فقد رفضوا قوانين الحماية والضمان الصحي والاجتماعي، كما رفضوا تطبيق قانون حماية المستهلك، وقانون الاسكان الوطني، وغير ذلك من البرامج، وهم ايضا من يعرقل الاستثمار وتفيذ المشاريع العملاقة، وهم الذين رفضوا قانون توزيع الاراضي السكنية عليهم لكي يحافظوا على الانجاز الوطني المثمثل بالارتفاع الجنوني في أسعار الأراضي في بلادهم ، وهم وهم. ..
إن على الدولة والسلطة فيها، أن تعي حقيقة الواقع المتغير وحتمية التغيير من أجل صياغة واقع جديد لا تحكمه النظم القديمة بصياغة أخرى "ملمعة" و"ملونة" لأن الأمور لا تسير إلى الأفضل إذا ما أردنا أن نكون صادقين في توصيف الواقع ولا يمكن لأحد أن يقول إن الحال أفضل الآن لأن الناس تستطيع أن تتحدث بشكل أفضل وبحرية أكثر من السابق. والحال أنه كلما ازدادت مساحة الحرية للكلمة والتعبير عن الرأي فإن هذا يعني تسليط الضوء على مواضع الخلل وهي ليست كثيرة في بلادنا فحسب ولكنها خطيرة بشكل كبير. ولهذا فإن الأمر لا يستدعي التباهي والتفاخر أو "المنّ" على الناس بأن الواقع الجديد أفضل حالاً من سابقه فلا داعي للتذمر، فهذه حالة استعلائية ينبغي أن لا تجد لها مكاناً في واقعنا...
إن الأمر يتطلب أن نكون جادين في عملية التغيير التي لا يمكن أن تحصل من دون شراكة شعبية في صناعة القرار، وليس معنى هذه الشراكة ان يقوم المواطن بوضع صوته في صندوق الانتخابات فقط، كما يتغنى البعض، وكما قال احدهم ذات مرة أن " مهمة الناخب تنتهي عند الصندوق" وانه لايحق له بعدها الاعتراض والمسائلة !؟. كلا بل الاهم هو مابعد ذلك، بالمصارحة والصدق معه و بالاستماع الى صوته ومطالبه والعمل على تحقيقها، وانجاز الوعود التي صرفت له على شيك بياض !... وطالما لا توجد هذه الشراكة الشعبية الحقيقية، وطالما بقيت السياسية والادارة في البلاد مجرد (لعبة) لشد الحبل والمناكفات والفئويات والمصالح الحزبية والكتلوية والشخصية، بين الساسة والاحزاب والكتل، فسوف تبقى الأزمات في بلادنا "مستديمة" و"مزمنة" وربما لا سمح الله تكون "مستعصية"، وهذه الشراكة بحاجة إلى آليات سليمة لمعالجة الخلل والبت في وضع الحلول المناسبة وهي لحد الآن غير موجودة ومن يكابر نفسه أو يزايد لسبب أو آخر فهو واهم علاوة على أنه يمثل استخفافاً كبيراً بعقول الناس لا طائل منه سوى المزيد من "استيلاد" الأزمات الخانقة التي لايتمكن الساسة من حلها، وازدياد الأمور سوءاً لا يحتاج إلى نباهة وما يسمى بـ"حنكة" سياسية، فقد أصبح كل مواطن حتى الأطفال الصغار يفهمون حقيقة الوضع وكأنهم من أصحاب الخبرة السياسية العريقة، وربما هي من الحسنات التي تحسب للسلطة (حكومة وبرمانا وكتلا واحزابا)، في أنها علمت الناس كيف "يشتغلون" أو "ينشغلون" بالسياسة لا فرق في ذلك فالكل يريد أن يتعلم السباحة في هذا البحر المتلاطم من الأزمات بعد أن أغرقت البلاد والعباد بـ"أزمات" و"كدمات" و"صدمات" لا ينجو فيها إلا من عصم الله، ولا نملك إلا أن نقول اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.