أضواء على مدينة عابرة للمجرات
|
د. نضير الخزرجي
لفت انتباهي وأنا في الطريق إلى مطار القاهرة عائداً الى لندن بعد زيارة عمل في الفترة 19-25 حزيران يونيو 2011م، قيام كوكبة من الشباب وهم على قارعة الطريق مشمرين عن سواعد الجد منشغلين بتنظيف الأرصفة وإعادة دهنها وصباغتها، وفي يد أحدهم لافتة تدعو الناس إلى التبرع بمبلغ زهيد لإعادة إعمار شوارع العاصمة، وهو منظر جميل يأتي مكمِّلا لرسالة الشباب المصري في ميدان التحرير في التغيير والدعوة إلى التعددية السياسية الحقيقية القائمة على حرية الرأي واحترام الرأي الآخر، وهي رسالة مضادة لأولئك الذين عمدوا إلى حرق مؤسسات الدولة مستغلين غياب الأمن لمدة أسبوعين.
ساقني مشهد الشباب المصريِّ الذي يوحي زيُّهُم الموحَّدُ بمظهر طلبةِ الجامعات والجمعيَّات الشبابية المثقفة، إلى مسقط رأسي مدينة كربلاء المقدسة التي تعرضت للحرق والتدمير أكثر من مرة خلال السنوات الأولى التي تلت سقوط نظام صدام في 9/4/2003م، ولم يكن التدمير على يد النظام البائد كما حصل في آذار مارس عام 1991م عندما فتح فوهات مدفعيته الثقيلة عليها لقمع انتفاضة أهلها، بل كان على يد شباب وصبية يزعمون حبهم للإمام الحسين (ع) وينتصرون للمقدسات بالروح والدم!، ففي المرة الأولى تعرضت فنادق المدينة والدور للحرق والتدمير بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة تحت مدعى حماية العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية، وفي المرة الثانية وخلال الزيارة الشعبانية في أغسطس آب عام 2007م تحولت شوارع كربلاء إلى ساحة حرب فهجرها أهلها واعتصموا في بيوتهم وتعرضت جدران الحرم الحسيني الشريف وممتلكاته الخارجية إلى الحرق والنهب، وخلَّف الخراب أكثر من ستين قتيلا والمئات من الجرحى، وغاب الأمن عن المدينة ليومين متتالين تعبث بها أيادي الخارجين عن النظام.
ومن المفارقات بين الموقفين أن الشباب المصري خلال الفلتان الأمني واصل الليل بالنهار وتسلَّح بما يملك من أدوات لحماية مقام رأس الإمام الحسين (ع) من أيدي العابثين الذين تطاولوا على مراقد الأولياء والصالحين في عموم مصر تحت مدعى (التوحيد الخالص)! وأعدُّوا العدة لتهديم المقام الحسيني الشريف ومرقد السيدة الجليلة زينب الكبرى(ع)، وفي كربلاء حيث مرقد الإمام الحسين(ع) عبثت به أيدي دعاة الحب الحسيني!.. انها مفارقات محزنة ومخجلة في آن واحد.
هذه المقدمة أوحاها إليَّ كتاب (أضواء على مدينة الحسين) الصادر حديثا (2011م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 594 صفحة من القطع الوزيري للمحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي، والذي يمثل الجزء الأول من باب مدينة الحسين الذي يضم 25 جزءاً، وهو أحد أبواب دائرة المعارف الحسينية الستين التي تفوق أعدادها الستمائة مجلد صدر منها حتى يومنا هذا 67 مجلداً، ولأن المدينة أغلى من المال والأهل فإن الكرباسي يدعو أهلها ومن يزعم محبة الثاوي فيها إلى الوفاء لها، وهو يقول من الطويل:
بلادي عزيزٌ تُربها نشأتي فيها
وَفيٌّ لها قلبي حنيناً مدى الدهرِ
جواري لسبط المصطفى قد سقاني
جرعةً فجَّرَت في الرمل دالية النَّهْرِ
فأوفوا معي في الكيل والحِلِّ عن صدقٍ
وكونوا على نهجٍ معي وافرِ الخيرِ
عالَمان متداخلان
من عادة الباحث عن معالم مدينة ما أن يغور في تناول تاريخها وتمصّرها والمدنيات أو الحضارات التي حلّت فيها، وكل باحث يوجه عدسته على جانب معين من المدينة، ولكن العدسة لا تخرج عن حدود الدولة وإذا توسعت حدقتها (زومها) طالت المنطقة والإقليم وربما القارة، وإذا فُتحت عن آخرها تم دراستها كجزء من الكرة الأرضية، لكن الكرباسي في (أضواء على مدينة الحسين) وجّه عدسة منظار التكبير (الرادار) إلى خارج الكرة الأرضية وغاص في عمق الزمن السحيق والنشأة التاريخية للكون والمجرات والمنظومات الشمسية مرورا بمنظومتنا الشمسية والكرة الأرضية لتعود ترددات أشعة عدسته إلى مجسّاته الأرضية لتحيط هالتها حول مدينة كربلاء التي تقدّست بسيد شباب أهل الجنة، الجنّة التي عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين.
وعناوين الكتاب تعكس نوعية البحث الذي طرقه المؤلف ليستقل في الحديث عن المدينة حيث جاءت كالتالي: الكون، مجرة درب التبانة، المجموعة الشمسية، الكرة الأرضية، خطوط الطول والعرض، الأقاليم والقارات، قارة آسيا، نقاط من آسيا، الأديان والحضارات وجذورها في آسيا، المذاهب، الفِرَق، الحضارات، الكتب المنزلة من السماء، العراق، نقاط سريعة عن العراق، الأوائل في العراق، معالم أخرى، من تاريخ العراق، الحدود والموقع، العراق إداريا، التقسيمات الإدارية، سطح العراق، عراق الزراعة، المناخ، ثم محافظة كربلاء، وعن الأخيرة فإنَّ أجزاء هذا القسم شملت العناوين التالية: كربلاء جغرافيا، تاريخيا، سياحيا، اقتصاديا، اجتماعيا، فكريا، علميا، ثقافيا، سياسيا، أدبيا، وأخيراً كربلاء مستقبلا حيث أنَّ للمؤلف تصوره الخاص عن تطوير المدينة من النواحي كافة وبخاصة في مجال التخطيط والعمران.
ويحدثنا الكرباسي وبشكل مختصر عن: حدود كربلاء، مساحة كربلاء، بيان إحصائي لمحافظة كربلاء، مدينة كربلاء (المركز)، أحياء كربلاء، أحياء غير معلَّمة، نقاط بارزة، المسافة بين كربلاء والمحافظات العراقية، البعد الفضائي بين كربلاء والأماكن المقدسة، المسافة بين كربلاء وعواصم دول الجوار، مواقيت الصلاة في كربلاء، وأخيرا كربلاء والمؤلفات.
إحياء الأحياء
لا مجال للشك أنَّ تكريم العَلَم في حياته أولى من تكريمه بعد مماته، فكم من عَلَمٍ رحل وغصته معه، منعته مروءته وكرامته من الإفصاح عمّا يجيش في صدره، وكم من عَلَمٍ حورب في حياته وسارع الحاسد إلى تدبيج المقالات بعد رحيله والإطناب فيها كأنه وذلك الفقيد (قد أكلا من ماعون واحد)! بل وكم من عَلَمٍ حورب من بني صنعته ومدينته لأنه تفوق عليهم في إظهار معالم مدينته، مع أنَّ خير تفوُّقِهِ يعمُّ أبناء المدينة من مريد وحاسد.
ولأنَّ الكرباسيَّ شديدُ الحرص على إعطاء كُلِّ ذي حقٍّ حقَّه ومن الدَّاعين إلى بناء جسور المحبَّة بين العَلَم والجمهور على طريق البناء وازدهار المدينة المقدسة، فإنه أدرج في كتابه كل ما وقع تحت يديه من كتب ومؤلفات تناول مؤلفوها مدينة كربلاء بخاصة، وفصَّل القول في شرح الكتاب والسيرة الذاتية لمؤلفه أو معده، وبالتالي فإنَّ الشروحات التي جاءت وفق الحروف الهجائية تمثلُ في اعتقادي أوَّلَ تعريفٍ (ببلوغرافيا) بالكتب والمؤلفات والمخطوطات والرسائل الجامعية التي تناولت مدينة كربلاء المقدسة بالتفصيل من جوانب مختلفة أخذت من صفحات الكتاب 211 صفحة أي أكثر من ثلث الكتاب، ولم تتضمن القائمة الكتب الخاصة بشخصية الإمام الحسين(ع) فإنَّ لها موقعا آخر في باب "معجم المصنفات الحسينية".
وتمثل القائمة خاتمة الجزء الأول من "أضواء على مدينة الحسين" وحسب العلامة الكرباسي: (تعد هذه الخاتمة بمستوى تكريم للذين كتبوا عن هذه المدينة من جهة وإرشاد للقارئ إلى المصادر التي يمكن الرجوع إليها في هذا الإتجاه)، فهي في واقع الحال خارطة طريق للباحثين والدارسين والأكاديميين وبخاصة طلبة الجامعات والدراسات العليا الذين يحرصون عند تناول المدينة على وضع خطة بحث متكاملة، فما جاء فيها من شروحات واسعة تضع الباحث على السكة الصحيحة وتفتح أمامه أبواب التحقيق والتوسع.
وممَّا يلاحظ في قائمة الكتب المشروحة أن المؤرخ العراقي السيد سلمان بن محمد هادي آل طعمة ارتقى أعلى رفوفها حيث استأثر بـ (47) كتابا مطبوعا ومخطوطا من بين 195 مؤلفا ورد ذكرها في القائمة أي بنحو الربع، مما يعكس الدور الكبير الذي يلعبه السيد سلمان آل طعمة المولود في مدينة كربلاء المقدسة عام 1935م في تخليد هذه المدينة وتعظيمها، والعطاء الذي قدمه لها استناداً إلى قاعدة الوفاء لمسقط الرأس والمودة لأهل البيت عليهم السلام ونصرة الحق وأهله.
وتُظهر مؤلفاتُه المناحي التي تناولها في تمجيد كربلاء المقدسة وأهلها من قبيل: الأسر العلمية في كربلاء، أعلام الفكر والأدب في كربلاء، أعلام النساء في كربلاء، الانتفاضة الشعبانية في كربلاء، تاريخ التعليم في كربلاء، ومضات من تاريخ كربلاء، الوقائع والحوادث السياسية في كربلاء، الموروثات والشعائر في كربلاء، كربلاء في ثورة العشرين، وغيرها العشرات، وفي كتابه "حكايات من كربلاء" يروي فيه جُلوسَهُ في شبابه مع كبار السن واستقصائه حكاياتِ أعلامِ المدينة ووجهائها، ومن تلك حكاية "الحاج علي شاه وكيفية ثرائه" في إشارة إلى والد جدي المدفون داخل المرقد الحسيني الشريف الحاج علي بن عبد الحميد العطار البغدادي الخزرجي (1857- 1909م) الشهير بالحاج علي شاه البغدادي، على أن القصة التي أوردها السيد آل طعمة الواردة على الألسن هي غير التي يتداولها أحفاده، وقد ختم الحكاية بالقول: (ألا رحم الله الحاجَّ علي شاه، لقد كان لهفة الحاضر، وزاد المسافر، داعياً للصلاح والخير العام، وعلى مثله فليعمل العاملون).
وفي تقديري أن السيد آل طعمة الذي نذر نفسه لهذه المدينة التي يؤمها الملايين من شرق الأرض وغربها لم يلق التكريم اللائق به في المحافل العراقية والكربلائية، وبخاصة وأنَّ محبرته لم ينضُبْ معينها وروحه ونفسه شابّتان كقلمه الشابِّ اليافع الذي يخطُّ كلَّ صغيرة وكبيرة عن مدينة غيّرت وجه التاريخ منذ عام 61 هجرية، وهو على خلاف البعض لا يبخل في تقديم المعلومة لمن يطلبها وحسب تعبير الكرباسي بحق آل طعمة: (ولع بالمدينة وبالأدب والشعر والتأليف حتى استحق بجدارة أن نصفه بمؤرخ كربلاء)،
أندر من الكبريت
ما يفرّق الكتابة الإنشائية عن البحثية هو أنَّ الثانية فيها من المعاناة ما لا يدركها إلاَّ مَن اكتوى بنارها أو وقف عليها، ولطالما لمست معاناة المحقق الكرباسي في اقتناص المعلومة من عالم المجهول، فهو لا يكلُّ ولا يملُّ عن البحث عنها، ولا أضل قلب الحقيقة إذا ما قلت أنَّ البحث عن الذهب أو التنقيب عن النفط في بعض الأحيان أسهل من تسقُّطِ المعلومة والبحث عنها، وقد تعجز فرق الإكتشاف ولا يصيبُه لُغُوبٌ، لكنه في الوقت نفسه يشعر بالأسى لأنَّ بعض أبناء مدينته يبخلون عليه بالمعلومة، ولو كانوا من أبنائها حقاً لما بخلوا عليه وعليها، وهل يبخل الإبن على من أرضعتهُ من صدرها وغذّته من عطائها؟ وهذه غصّة أخرى يشعر بأشواكها من يقترب من الحقيقة ولذلك فإنَّ الكرباسي يُشهد الله: (كم عانيت في تحصيل معلومة صغيرة من أهالي هذه المدينة وبالذات ممن عايشتهم وتربيت معهم ولكنهم بخلوا أو تجاهلوا أو احتكروا ما كان لديهم من المعلومات التي لعلها تفيد القارئ في مجملها، ولاشك فإنِّي لا أعمم كلامي هذا بل هناك فتية أطلقوا يد العون أخص منهم بالذكر السَّلْمانَ مِن آل طعمة).
وفي الواقع أن المعلومة صغيرةً كانت أو كبيرةً وبخاصة ما يتعلق بمدينة ككربلاء هي ملك الجميع واحتكارها ضرب من الإثرة والممانعة عن نشر العلم الذي يعتبر زكاة مفروضة على صاحب المعلومة كما قال أمير البيان علي بن أبي طالب(ع): (زكاة العلم نشره)، وليس الباسط للمعلومة كالقابض لها لا يستويان.
وعلى شرف خدمة هذه المدينة تأتي دائرة المعارف الحسينية في الصدارة، ولذلك فإنَّ صاحبَ المقدمة يعرب عن سروره وغبطته وشكره: (لدورها الكبير في رفد المكتبة الإسلامية بالمؤلفات والمصنَّفات الغزيرة والمتفردة بالنوع أولاً، وبالكمِّ ثانيا). في واقع الأمر أنَّ هذا الجزء من الموسوعة يرجع بذاكرتنا إلى الوراء، إلى حيث العلوم المتنوعة التي كان يضطلع بها العالم المسلم، فهو الفقيه والطبيب والفلكي والفيزيائي والرياضي واللغوي والأديب والشاعر، وقليل ما هم في حاضرنا حيث صار التخصص سمة العالم وخصوصية العلوم، بل هم أندر من الكبريت الأحمر.
إعلامي وباحث عراقي- (لندن)
|
|