في ذكرى مولده الشريف
القيادة الأخلاقية في منهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
|
ضياء العيداني
إن القيادة في الاسلام لها مجالات عديدة تتداخل فيما بينها لتشكل البوصلة التي تهتدي بها الأمة وتضمن مسيرتها نحو شاطئ الأمان، فهنالك القيادة السياسية والقيادة الأخلاقية والقيادة العلمية، وهنا نسلط الضوء على القيادة الأخلاقية، إذ تكمن الحكمة من الوحي الإلهي والنبوة الربانية والإمامة في إحياء القيم الأخلاقية الفاضلة وإعداد الطاقات البشرية الصالحة لتسيير المجتمع الإنساني نحو الفضيلة والكمال، ذلك أن الأخلاق هي أساس السلوك الإنساني على عكس السلوك الحيواني الذي تسيره الغرائز البحتة؛ فالقيم الأخلاقية هي عماد المجتمع المثالي كما هي عماد الدولة النموذجية، وهذا ما يؤكد عليه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وتعد القيادة الأخلاقية شرطاً للقيادة السياسية، أي أن الإنسان ما لم يتمتع بالقيادة الأخلاقية فلا يصلح من المنظور الإسلامي للقيادة السياسية للمجتمع الإسلامي، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) أهلاً للقيادة الاخلاقية، وكان كذلك في سائر مجالات القيادة، فلم تعهد الامم كافة منذ نشأتها ولحد الآن مربياً أعظم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى شهد بذلك العدو قبل الصديق؛ فلقد كان بحق معلماً ومربياً في آن واحد، ولم يكن يفصل بين التربية والتعليم ولما كانت التربية الحقة تقتضي المخالطة والمعايشة؛ فقد كان (عليه الصلاة والسلام) يخالط أصحابه ويعايشهم في غدوه ورواحه وأكثر أوقاته، ويستثمر كل حدث يمر به، في تعليم أصحابه وتربيتهم بأحسن الأساليب وألطفها وأكثرها إثارة وتشويقاً.
المُربي قدوة
إن رسول الله (صلى الله عليه آله) هو القدوة والأسوة، كما قال الله تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً"، ولما كانت التربية الحقة لا تكتمل إلا بالقدوة الحسنة من المعلم والمربي؛ فقد ضرب (عليه الصلاة والسلام) أروع الأمثلة على ذلك، ولو ذهبنا نستقصي سيرته في هذا الشأن، لطال بنا المقام، لكن لعل ما ذكرته يكون كافياً في بيان حرصه على التربية، وأنها لا تنفك عن التعليم، فمن صفات المصطفى (صلى الله عليه واله)، إنه إذا انتهى الى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب احدٌ من جلسائه إن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس منه خلقه وصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات متعادلين متواصلين فيه بالتقوى.
كان (صلى الله عليه وآله) أحكم الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم واعطفهم وأسخاهم، لا يثبت عنده دينار ولا درهم، ولا يغضب لنفسه، يشيع الجنائز ويعود المرضى في أقصى المدينة، يجالس الفقراء ويؤاكلهم، ويناولهم بيده ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ويتألف مع أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم ألا بما أمر الله، لا يجفو على احد يقبل معذرة المعتذر إليه، وكان أكثر الناس تبسما ما لم ينزل عليه القران وربما ضحك من غير قهقهة، ولا يرتفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ما شتم أحدا بشتمة ولا لعن امرأة ولا خادما بلعنة، ولا لام أحدا إلا قال: دعوه، ولا يأتيه حراً أو عبداً أو أمة إلا قام معه في حاجته، ولا يجزي السيئة بالسيئة، إنما يغفر ويصفح.
اهتمام النبي بالشباب
من خلال التعامل الحكيم للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، مع الشباب استطاع أن يربي جيلاً مؤمناً وملتزماً بتعاليم وقيم الإسلام، وكان لهذه الطليعة المؤمنة ـ فيما بعد ـ الدور المهم والمؤثر في التبليغ للإسلام، ونشر مفاهيمه وقيمه ومثله، وهو بذلك يقدم لكل قائد ومصلح وزعيم، المثال العظيم لأن يعمل على كسب الشباب، وتوظيف طاقاتهم الخلاقة فيما يخدم المجتمع والأمة، واستثمار مواهبهم الإبداعية في التطوير والتقدم كما عمل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) مع الشباب، فمن الضروري العمل بجد وإخلاص من أجل استقطاب الشباب نحو التدين، وإنماء القيم الأخلاقية لديهم، وتقوية البنية الثقافية عندهم، لأن الشباب يتفاعل مع كل جديد، وهم أكثر الناس تأثراً، وأسرعهم استجابة، وأشدهم تفاعلاً، وقد رَبى النبي الأكرم جيلاً مؤمناً و ملتزماً بمفاهيم وقيم الإسلام، وكان الغالب في هذا الجيل شريحة الشباب. وكان للشباب دور رئيس في الالتفاف حول الرسول الأكرم ومساندة ما جاء به (صلى الله عليه وآله)، والدعوة إليه والدفاع عنه. كما كان (صلى الله عليه وآله)، يولي اهتماماً خاصاً برعاية الشباب وتربيتهم وإعدادهم لتحمل المسؤوليات الكبيرة، وقال (صلى الله عليه وآله): (فضل الشاب العابد الذي تعبد في صباه على الشيخ الذي تعبد بعدما كبر سنه، كفضل المرسلين على سائر الناس)، وقد كان لثناء الرسول (صلى الله عليه وآله)، على الشباب دور مهم ومؤثر في كسب المزيد منهم، والتفافهم حول قيادة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا ما جعل للشباب دوراً فاعلاً في تقدم الدعوة، ونشر رسالة الإسلام إلى مختلف المناطق. فالشباب هم عماد أي تقدم، وسر نهضة الأمم، وقوة أي مجتمع ؛ لأنهم في مرحلة القوة والقدرة على العطاء والإنتاج والاستعداد للتضحية والفداء وتوكيد الشخصية.
ومن اهتمامه بالشباب استدعائه لأسامة بن زيد، وعقد له لواء القيادة وخوّله إمارة الجيش الاسلامي العظيم، وكان هذا الشاب الذي عينه النبي (صلى الله عليه وآله)، لم يتجاوز الثمانية عشر سنة، وبات على جميع المسلمين، وفي مقدمتهم كبار الصحابة أن يمدوا يد الطاعة والولاء لهذا القائد الشاب الذي عينه الرسول (صلى الله عليه وآله) لقيادة الجيش لمواجهة الخطر القادم من الدولة الرومية، علماً أن العديد من الاسماء بين الصحابة من كان يتمنى أن يقع الاختيار عليه.
الإهتمام بالمرأة والأطفال
والمرأة لا تقل شأناً عن الرجل في ميادين التربية والتعليم، بل هي المربية الأولى للنشء، وعلى يديها يتخرج الأبطال العظام، و نجاح الاسرة والمجتمع مرهون بوعي المرأة واستشعارها للأمانة التي كلفت بها، وإدراكها لدورها الحقيقي في النهوض بالأمة، والترفع عن سفاسف الأمور وقشورها، وكذلك باهتمامها بالأطفال، لأنهم نبتات طرية، فإذا تركت المرأة دون ركائز مالت واعوجت، فلتكن ركائزنا مستمدة من نهج رسولنا الكريم ومن ذاك النبع الدافق من الحب والعطاء والتربية السليمة تبدأ منذ نعومة الأظفار، فما ينشأ عليه الطفل من صغره يصبح ملازماً وراسخاً معه في كبره، وقد خط النبي منهجاً لتربية الاطفال من خلال عدة حوادث كان المُراد منها تشجيع الطفل على طلب العلم ومخالطة العلماء، ففي حضور الناشئ مجالس العلماء ومن يكبرونه سناً وقدراً، يُعد تكريماً له وتوسيعاً لمداركه وتبصيراً له بأمور الحياة، ولكن ينبغي على الأبوين تعليمه آداب المجلس وكيفية التخلّق بها، فلا يطاول الكبار في مجالسهم أو يتقدمهم بحديث أو كلام.
وقد أكد النبي الأكرم على المداعبة والتعليم بطريقة اللعب، وهذه من الأمور التي تعدها المدارس الحديثة ذات فائدة ونفع في تعليم الطفل وأكثرها أهمية لقربها إلى نفسية الطفل وتكوينه السيكولوجي، والتلطف بهم واحترام مشاعرهم ومواساتهم، والتقرب إلى الأطفال بالهدايا والهبات، ومما يدل على ذلك الحديث الوارد عنه (صلى الله عليه وآله) بانه كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به رسول الله، فإذا أخذه قال: اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا... ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر، كما أكد على التأكيد على عدم غشهم أو الكذب عليهم، فالكذب على الطفل يفقده ثقته بأبويه ويعطيه شعورا بالاغتراب فينصرف عن الاستماع إليهما ويعمد إلى تقليدهما بالكذب.
أزمة اخلاق وضمير:
بما اننا نعيش اليوم أزمة متفاقمة و واسعة الابعاد في الاخلاق والضمير، فانه من الجدير بل والواجب العودة الى المنهج الاخلاقي للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم تعريف هذا المنهج للعالم كله، فنحن نشهد كل يوم أزمات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنية، كلها تضع الانسان في موقف حرج وتدفع به لأن يتصرف بشكل يفقده في بعض الاحيان انسانيته عندما يجد نفسه مهدداً في لقمة عيشه وصحته واستقراره بل وفي مصيره في هذه الحياة، وعلى هذا فان البشرية اليوم بحاحة الى أخلاق، وبالتحديد أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي تلك الاخلاق التي أشاد بها البارئ عزوجلّ في كتابه المجيد حيث قال: "انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق"، صحيح ان الغربيين يملكون رأس المال الضخم واليابانيين يملكون التكنولوجيا، وباتت ارباحهم تحسب بالترليونات، ولكن ذرة من الاخلاق اعظم من كل هذا الربح والقدرات المادية، فهذه الارباح اين تذهب؟ وما فائدة سيارة ضخمة عملاقة ليس فيها مقود؟ ان ضررها اكبر من نفعها لانها سترمي بمن فيها الى واد سحيق، والحضارة البشرية اليوم تشبه الى حد كبير سيارة تسير بسرعة جنونية دون ان يكون فيها مقود، فهي قوة بلا عقل، واخلاق بدون ضمير، ان البشرية بحاجة اليوم الى تلك الرحمة الالهية، الى النبي (صلى الله عليه وآله) والى من يحمل رسالته، ونحن نفتخر باننا ننتمي الى هذه القدوة الالهية، ونفتخر باننا سنظل على هدى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونعتقد بأن هذه الثروة الحضارية التي نمتلكها لا يمكن ان تقدر بثمن، ولو اعطونا الدنيا كلها ثم سلبوا منا الولاء للنبي (صلى اللـه عليه وآله) لما كانت هذه الدنيا تعدل عندنا شيئاً، لان ولاءنا ضمير و روح وحب ونهج صحيح في الحياة.
|
|