محمد بن أبي بكر .. ربيب الولاية و شهيد صراع الحق ضد الباطل
|
*إعداد / لبيب عبد الحسين
تميز التاريخ الإسلامي بنفر من القادة، تولّى بعضهم مصراً من الأمصار، أو قاد جيشاً، أو عُهد إليه بسفارة أو تمثيل لحاكم أعلى. هؤلاء الرجال بالرغم من أهمية المسؤولية الموكلة إليهم، وقد كانوا فتيةً في ريعان الصبا وشرخ الشباب؛ لم يتجاوز سنهم العقد الثالث من العمر، بل دون ذلك أحياناً، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على دور الشباب في حركة الدين والإصلاح الاجتماعي، كما يدل على عظمة الاسلام في اعطاء المكانة والقيمة للشباب ولدورهم في الحياة.
لقد انتدب رسول الله صلّى الله عليه وآله مصعب بن عمير، الشاب المترف والمدلل الذي صدف عن زخرف الدنيا وزينتها، ليمثله في المدينة للقاء الأنصار، عشية هجرته المباركة، وكان أسامة بن زيد قائداً في غزوة، وتحت إمرته كبار الصحابة، ومَنْ هم أقدم منه هجرة وإسلاماً، وهو ابن الثامنة عشرة.
وفي عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تكررت السنّة واستمر النهج، وهلا يكون غير ذلك؟ وعلي هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان عند الامام علي عليه السلام محمد ابن أبي بكر ذلك الشاب الواعد والمجاهد الضارب في سوح الوغى والمؤمن المستميت في سبيل الولاية ونصرة الدين، والذي بحق لم تأخذه في الله لومة لائم.
ان قصة محمد بن أبي بكر لم تبدأ من مصر التي ولاها إياه أمير المؤمنين، رغم انها كانت مسرحاً لاحداث جمّة انتهت باستشهاده بتلك الصورة المؤلمة، إنما بدأة منذ نشأته صغيراً وبعد وفاة ابيه ابي بكر وزواج الامام علي عليه السلام من أمه اسماء بن عميس.
وُلِد محمد في حجة الوداع، بذي الحليفة، وهي موضع بين مكة والمدينة، في شهر ذي القعدة السنة العاشرة للهجرة الشريفة، نشأ في المدينة المنورة، في حجر الإمام علي عليه السّلام. أما والدته أسماء بنت عُمَيس الخثعمية، فكانت بداية زوجةَ جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه، وهي تعد من النساء الأوائل في الإسلام، وكانت تكثر من السؤال لرسول الله صلّى الله عليه وآله لتتعلم معالم دينها منه. وقد هاجرت مع زوجها جعفر إلى الحبشة في أوائل مَنْ هاجر، فولدت له هناك عبدالله الجواد. ثم استشهد جعفر في يوم مؤتة، فتزوجها أبو بكر، فولدت له محمداً، ثم توفي أبو بكر، فتزوجها الإمام علي أمير المؤمنين عليه السّلام، فأصبح محمد ربيبه وخريجه، وجارياً عنده مجرى أولاده، رضع الولاء والتشيع من زمن الصبا، واستقاه من أمه ومربيه، فلم يكن يعرف أباً له غير علي عليه السّلام، ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره، حتّى قال علي عليه السّلام: (محمد ابني من صلب أبي بكر)، وكان يكنّى أبا القاسم، وكان من عُبّاد المسلمين ونسّاكهم، وكان يثنى عليه لفضله وعبادته واجتهاده.
قرابته من آل بيت رسول الله
لم يكن محمد بن أبي بكر ربيباً لعلي عليه السّلام فحسب، وإن كان حَسْبه شرفاً وفخراً أن يحظى بتلك الكفالة التي حظي بمثلها إمامه عند رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما حظي كافلو النبيّ صلّى الله عليه وآله والقائمون على تنشئته وإرضاعه مثل عبدالمطلب وأبي طالب وحليمة السعدية، لأن الفيوضات الروحية، والكمالات الإنسانية تسري من الأكثر كمالاً إلى مَنْ له القابلية لتلقي تلك الفيوضات الروحانية والمزايا السَّنية.
لقد كان محمد أخاً لعبدالله بن جعفر لأمه، وعاش ردحاً من الزمن في كنف الحسنين عليهم السّلام يقتبس من نوريهما ويتأثر بهما، ثم جاء فتح فارس في معركة القادسيّة، فأُسِر ليزدجرد أربع بنات، كانت إحداهن من نصيب الإمام الحسين عليه السّلام، فأنجبت له الإمام زين العابدين عليه السّلام، وهي شاهزنان، والثانية شهربانويه، تزوجها محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم، وتوفيت شاهزنان أم الإمام زين العابدين، فقامت بتربيته خالته شهربانويه زوجة محمد، فأنزلها الإمام زين العابدين عليه السّلام بمنزلة أمه. أمّا البنتان الاخريتان فتزوج إحداهما الإمام الحسن عليه السّلام والثانية عبدالله بن عمر. فعلى هذا يكون القاسم بن محمد والإمام زين العابدين عليه السّلام أبناء خالة. وكان للقاسم ابنة اسمها (أم فروة) تزوجها إمامنا الباقر عليه السّلام، فولدت له الإمام الصادق عليه السّلام، فيكون محمد ابن أبي بكر جد الإمام الصادق عليه السّلام لأمه، مع العلم أن أمّها هي ابنة عبدالرحمان بن أبي بكر شقيق محمد. ومن ألطاف الله على محمّد بن أبي بكر أن جعل ذريته موصولة الرحم بذرية الرسول صلّى الله عليه وآله.
يقول الأصمعي: كان أكثر أهل المدينة لا يرغبون في الإماء، حتّى نشأ فيهم علي بن الحسين عليه السّلام والقاسم بن محمد وسالم بن عبدالله بن عمر، ففاقوا أهل المدينة علماً وفقهاً و ورعاً، فرغب الناس في الإماء.
جهاده
اشترك محمد بن أبي بكر في معركة الصواري البحرية سنة 31هـ، في عهد عثمان، وهي معركة بحرية جرت بين المسلمين والروم، وأُرْسِل محمد في سفارة إلى أبي موسى الأشعري بالكوفة في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام، وفي معركة الجمل كان قائد الرجّالة. وهو الذي حمل الهودج من بين القتلى، فأمر الإمام علي عليه السّلام أن يضرب عليه قبة، ثم قال لمحمد: أنظر هل وصل إلى اختك عائشة شيء من جروح. وعندما أقبل الليل أدخلها البصرة وأنزلها دار عبدالله بن خلف الخزاعي، ضيفة عند صفيةً بنت الحرث بن أبي طلحة، ثم أعادها الإمام علي السّلام إلى المدينة المنورة برفقة أخيها محمد مع أربعين امرأة متنكرات بزيّ ثياب الرجال حرساً لها.
ولاية مصر و الشهادة
عُزل قيس بن سعد عن ولاية مصر، وعيّن أمير المؤمنين عليه السّلام بدلاً عنه محمد بن أبي بكر والياً عليها. ثمّ إن الإمام عهد إليه وأوصاه ناصحاً له بقوله:
(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به عبدالله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر، وأمره بالتقوى والطاعة في السر والعلانية، وخوف الله عزّوجلّ في الغيب والمشهد، واللِّين على المسلمين، والغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم، والعفو عن الناس، والإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين).
وعندما نزل محمد مصر تلا على الناس عهد أمير المؤمنين إليه، ثمّ عقب على كتاب الولاية فقال: (الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختّلِف فيه من الحق، وبصرّنا وإياكم كثيراً مما كان عُمِيَ علمه. ألا إن أمير المؤمنين ولاني أمركم، وعهد إليّ ما سمعتم، وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعةً لله، فأحمد الله على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادي له، وإن رأيتم عاملاً لي عمل بغير الحق، فارفعوه إليّ وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته).
ولبث شهراً كاملاً مدبّراً أمور الولاية، حتى بعث إلى قوم من أهالي (خرِبْتا) وهي البلدة العثمانية المعارضة لخلافة الإمام علي عليه السّلام، فقال لهم محمد بن أبي بكر: إما أن تدخلوا في طاعتنا، وإمّا أن تخرجوا من بلادنا، فرفضوا واصروا على البقاء، وكانت واقعة صفين وهم لمحمد هائبون، فلما رجع عليّ عليه السّلام عن معاوية، وصار الأمر إلى التحكيم، طمعوا به وأظهروا له المبارزة، فجرت معارك بينه وبينهم فلم يظفر بهم، فكان يرسل السرية بعد السرية، لكن الذي قلب الموازين هو إرسال معاوية عمرَو بن العاص في جيش جرار إلى مصر لمساعدة انصاره المعارضين .
ولما بلغ الإمام عليّ عليه السّلام اضطراب الأمر في ولاية مصر، سارع إلى إرسال القائد مالك الأشتر، وذلك قبل أن تستشري الفتنة، ولكن معاوية استطاع بحيلة منه أن يدسّ السم للوالي الجديد وهو في طريقه قبل تسلّم ولايته، مستعيناً بأحد رجال الخراج في مكان يقال له (القلزم) وهو السويس حالياً، فشرب الأشتر وهو لا يشك في مضيّفه، شربة ماء ممزوجة بالسم والعسل فاستُشهِد، وبذلك أضحى محمد بن أبي بكر وجهاً لوجه مع اثنين من الدهاة معاوية وعمرو بن العاص..
جرت معارك طاحنة بين جيش محمد وبين جيش الشام الذي كان يقوده الداهية عمرو بن العاص، وكانت المواجهة غير متكافئة، فقد سقط العديد من قادة ورجال محمد، حتى تفرق الجند، وآل مصير محمد بن أبي بكر الصحابي الجليل أن يكون مشرداً يتلمس الخفية والتستر عن عيون الأمويين، لكن احد غلاظ وجلاوزة بن العاص ويدعى معاوية ابن حديج ألقى القبض على محمد بن أبي بكر وهو في حال يرثى لها حيث فارق الماء والطعام لأيام عديدة. فطلب محمد شربة من الماء، فقال له معاوية ابن حديج: لا أسقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً، والله لأقتلنّك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسقيك الله من الحميم والغسلين، فقال له محمد: يا ابن اليهودية النسّاجة؛ ليس ذلك اليوم إليك، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه، وهم أنت وقرناؤك ومَن تولاك وتولّيته، والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم. فقال له معاوية بن حديج: أتدري ما أصنع بك ؟ أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار! وكان في المغارة جيفة حمار ميت. قال: إن فعلتم ذلك بي فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وأيم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية، وهذا (وأشار إلى عمرو بن العاص) بنار تَلَظّى، كلّما خَبَتْ زادها الله عليكم سعيراً. إلى آخر ما دار من حوار بينهما، ثم غضب معاوية بن حديج، فقدّمه وضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار.
وبعد استشهاد محمد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان، (أما بعد، فإنا لقينا محمد ابن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع من أهل مصر، فدعوناهم إلى الكتاب والسنّة، فعصوا الحق، فتهوّلوا في الضلال، فجاهدناهم، واستنصرنا الله جلّ وعز عليهم، فضرب الله وجوههم وأدبارهم، ومنحنا أكتافهم! فقُتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر، والحمد لله رب العالمين)!!
بهذا الدجل والتزييف تمكن الأمويون من تحكيم قبضتهم على المسلمين سالكين مختلف السبل للوصول إلى اهدافهم واطماعهم فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، وبهذه الجريمة المروعة ختم محمد بن أبي بكر سجل اعماله بطلاً مجاهداً صابراً وشهيداً في سبيل العقيدة والمبدأ، وكانت وفاته في مطلع سنة 38هـ، وكان له من العمر ثمان وعشرون سنة.
8
|
|