الأمل بالله وحساب الربح والخسارة
|
*يونس الموسوي
أين وضعت أملك؟
أ وضعته في المال أم في الدار أم في الرجال؟
أملك الحقيقي هو الله العزيز الذي أحاطك بلطفه وشملك برعايته فلا ترج غيره ولا تأمل بأحد سواه، لأنه ضاعت آمال من رجا غيره وأملّ سواه، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (ضاع من كان له مقصد غير الله)، وقال أيضاً: (من أمّل غير الله سبحانه أكذب آماله).
فلا تضيّع نفسك بآمال واهية، لأن الأمور كلها بيد الله عزوجل فهو يتصرف بالأمور كيف يشاء، ومن تصرفه انه جعل للإنسان مشيئة، فأصبح بخلاف الكائنات كلها صاحب ارادة في تغيير الأشياء والتصرف بها، فأصبح ذا مال يشتري به القصور و يتزوج النساء ويفرض هيمنته على الناس، فيطغى ويتجبر، حتى يظن الظانون أنه مالك الكرة الأرضية، يرزق هذا ويحبس عن ذاك.... فيفتتن الناس به ويقولون أنه صاحب جاه وفضل! فينقلب الناس وتنقلب معهم عقولهم وأخلاقهم، فتراهم يركعون ويسبحون بحمده ويشكرون نعماءه، لكنهم لايعلمون أنهم مفتونون، وهو فتنتهم، سلك بهم سبيل ضلالة وأبعدهم عن الطريق السوي.
الصورة التي أمام الناس هي أنهم يرون هؤلاء الحكام والأثرياء والتجار وهم يتلاعبون بمصائر الناس من الرزق والرفعة والكرامة أو حتى السجن والقتل، كلها بأيديهم.. فمن الذي لايطمع برزقهم وعطائهم؟ ومن الذي لايخاف سطوتهم وجبروتهم وكبريائهم؟!
هذه هي الصورة التي يشاهدها الناس ويتأثرون بها، لكنها ليست صورة حقيقية، فليس رزق الناس بيد هؤلاء، ولاموتهم أو حياتهم، والدليل على ذلك أنهم محتاجون في حياتهم أو مماتهم أو حتى في بقاء ملكهم وثرائهم وغير ذلك، بحاجة إلى قوة أخرى تمنحهم كل تلك الإمكانات والقدرات العالية. وهم يشعرون بحاجتهم إلى تلك القوة أكثر من أي أحد، لأن الناس يظنون بهم أن الأنهار تجري من تحتهم ويلتذون في أرغد عيش، لكنهم لايعلمون عن الكثير من النواقص وعوامل الضعف والعقد الموجودة فيهم، فهذه الحقيقة هي ليست مهمة بالنسبة إلى أولئك المتجبرين والطغاة، لأنهم يعرفون أنفسهم من ناحية الضعف والضعة، لكن لابد للناس من أن يعرفوا هذه الحقيقة لينكشف لهم الزيف.
كان بمقدور الله سبحانه وتعالى أن يزهق روح الطاغية نمرود بأية صورة من الصور التي يشاء، لكنه عزوجل أراد أن يكون موته عبرة لمن بعده، ولكي يعرف الناس ضعف هؤلاء الطغاة والمتجبرين، فأرسل إليه عزوجل حشرة من أصغر مخلوقاته، فكسرت كبرياءه وحطمت عنفوانه وأزهقت روحه.
فالطاغية لاينتفع بهذا المثل، لأنه يعرف نفسه ويعرف ضعف قدراته، لكنه مع ذلك أخذ موقع الرب وبدأ يخاطب الناس وكأنه خالقهم أو رازقهم، ويظهر وجه القوة من ملكه ويكشف لهم عن جبروته وعظمته. فكان لزاماً أن يتعرف الناس على حقيقته ويكتشفوا أمره، ويظهر لهم ضعفه، حتى لاينخدعوا بأفكاره الضالة، وقد أظهر الله سبحانه وتعالى ضعف هؤلاء الجبابرة بأحسن صورة، وذلك على يد الانبياء العظام.
هذه صورة يشاهدها ويلمسها أغلب الناس تجاه أولئك المتجبرين، وتقابلها صورة أخرى للمقربين إلى الله، وهي صورة تشتمل على معاني الإبتلاء والألم والشهادة، ومن بينها قصة الإمام الحسين عليه السلام وهي قصة تقطر ألماً ودماً. ماذا كان تقدير الله بحقه؟ لقد تقطعت أوصاله بسيوف أعداء الله، وكانت كل خلية من خلايا بدنه تصرخ بالألم، وكان كل موقف من مواقف تلك الفجيعة تجرح الحسين عليه السلام، مقتل الأصحاب ومقتل أهل بيته مقتل الأكبر والقاسم والعباس عليهم صلوات الله عليهم، إن ما تجرعه الحسين عليه السلام من الآلام لم يتجرعه أحد من العالمين. ماذا كان موقف الإمام في ذلك اليوم؟
انه يقول مخاطباً رب العزة: (ولو قطعتني في الحبِّ إرباً لما حنَّ الفؤاد إلى سواكا)، كان على الحسين أن يختار بين حب الله والقتل بهذه الصورة المفجعة وبين أن يكون بعيداً عن الله ولا يكون له دور في الحياة، لكنه اختار الله واختار حبه على كل مغريات الدنيا والعيش اللذيذ، فهذه هي الدنيا، وهذه هي فتنتها.
أعداء الله والجبابرة المتكبرون والطغاة يتنعمون بالقصور والامتيازات، بينما أحباء الله والمقربون إليه تقطع أوصالهم في الصحارى والوديان!
وبعد هذا كله: أين أمَلكَ الآن...؟!
لقد وضع الامام الحسين عليه السلام أمله بالله عزوجل، فوصل إلى هذه المرتبة العليا، وفرعون ونمرود وضعوا أملهم بالشيطان فوصلوا إلى ما وصلوا إليه، فما هي العاقبة وأين يجب أن يكون أملنا؟
في الوقت الذي كان فرعون يوطِّد حكمه، ويثبت أمره، ويبسط ملكه بدأت تظهر له المشاكل والعقبات، وبدأت المعارضة ضده تكبر شيئاً فشيئاً حتى بدأ يخاف على ملكه من هؤلاء الحفاة الذين كان في الأمس يسخر من ضعفهم وعجزهم، لكنه بدأ اليوم يشعر بقوتهم المعنوية وتأثيرهم على ملكه وظن أنه قادر عليهم والقضاء على شوكتهم، بفضل ما يملك من قدرات هائلة، حتى دخل معهم في نزال أخير وأقحم جيشه في بحر هائج، فغرق هو ومن معه.
كنا نتحدث عن العاقبة، فوجدنا أن فرعون لم يهنأ بالملذات التي كان يطلبها، لأنه قضى عمره في الصراع والمشاكل والحروب، فهو حتى وإن إلتذ ببعض الأيام، فأن لذته تلك لاتحسب شيئاً بحساب الزمن بالنسبة للعذاب الذي سيذوقه في عالم الآخرة، ويصدق هذا الأمر على ما يقابله من عذاب الدنيا، فآلام الدنيا هي أيضاً لاتقاس بآلام الآخرة.
وليس الشوق هو شوقا للجنة وانما هو شوق للقاء الله، ففي أخبار داود عليه السلام ان الله عزوجل أوحى إليه: "يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إليّ؟ قال: يارب من المشتاقون إليك؟ قال: إن المشتاقين إليّ الذين صفيتهم من كل كدر، وأنبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إليّ خرقاً ينظرون إليّ" (المحجبة البيضاء، ج8، ص59).
فهؤلاء الأفراد وصلوا إلى الله من أقرب الطرق إليه، الطريق الذي يفتحه عزوجل لخاصة أوليائه، فينظرون إلى عزته وجلاله وليست أعمالهم كأعمالنا وليست عبادتهم كعبادتنا، فهم يرون الله عند كل عمل يقومون به، لذا فأن جميع أعمالهم مقبولة، بينما نحن ساهون عن الله وعن ذكره حتى في عبادتنا وصلاتنا، فلا نشعر بتلك اللذة التي يشعرون بها، ولا نلمس حقيقة وجوهر ذلك العمل الذي نؤديه.
وهناك فرق بين من يأتي إلى الصلاة حباً وشوقاً إلى لقاء الله وبين من يأتي إلى الصلاة لأداء الواجب والخوف من عقاب نار الجحيم، فالأول بلا شك يمتلك شعوراً مختلفاً عن شعور الثاني، فالأول عندما يدخل إلى الصلاة يحس وكأنه في محضر رب العزة والجلالة، لذا فأن صورته وطريقة تفكيره ستكون مختلفة عن الآخر الساهي عن وجود الله عزوجل.
الأحاديث القدسية تذكر خصيصة مهمة لهؤلاء الأفراد وهي انهم شغلوا أنفسهم بالله وفرغوا قلوبهم عما سواه، فلا الدنيا ولا أهلها ولا ملذاتها شغلتهم عن الله، لأنهم أوقفوا نفوسهم في طريق محبته فأكفتهم عن ملاحقة الشهوات والأهواء، وارتووا من عذب هذا الفرات، حتى وجدوا أنه لا شيء يرويهم غير محبته، وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله عزوجل أوحى إليه:.. يا داود إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني، ونعمتها بنور وجهي.
"فقال داود: يا رب بم نالوا منك هذا... قال: بحسن الظن، والكف عن الدنيا وأهلها، والخلوات بي ومناجاتهم لي، وإنّ هذا منزل لايناله إلاّ من رفض الدنيا وأهلها، ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرّغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي، فعند ذلك أعطف عليه فأفرّغ نفسه له، وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إليّ نظر الناظر بعينه إلى الشيء.." (المحجة البيضاء، ج8، ص59).
إذا كان الطريق إليك يا رب بهذه المسافة القصيرة، فلماذا يبتعد عنك المبتعدون؟ ولماذا يبخس حقك الضالون؟
المشكلة في معرفتهم، فهم يجهلون الكثير عن الله عزوجل، حتى يظنون به الظنون السيئة، وما من إنسان في هذا الكون إن كان مؤمناً أو فاسقاً إلا ويتنعم برحمة الله، حتى وإن كان في مرض أو ضيق أو مشكلة، فإن ذلك مما ينفعه إما في عالم الدنيا أو الآخرة وفق حسابات وموازين دقيقة عندالله عزوجل، وسيأتي اليوم الذي سيعرف فيه العالم جميعاً من مؤمنين وكافرين، إن الله عزوجل كان راحمهم في كل لحظة من لحظات أعمارهم، وانه عزوجل ما قدر عليهم بشيء من الأذى والصعوبة إلا كان ذلك مصلحة لهم، وتخفيفاً لهم من عذابات شديدة ستُمحى عنهم بسبب إبتلاءات الدنيا.
|
|