السيد رضا الهندي
شاعر العَبرة الحزينة
|
*علي ياسين
كانت عاصفة البكاء المنبعثة من داخل المسجد الذي يتوسط اربعة طرق تنطلق من عيون عبرى وضمائر ملتهبة ونفوس متأججة وقد احدثت دويا حزينا ونشيجا مفجعا يزرع في قلب القادم الى المجلس رهبة الموقف وهو الفاجعة، المجلس يكتظ بالناس واصوات البكاء تتعالى فتتلألأت الدموع على الاضواء الخافتة تضيء النفوس وتغسل القلوب وتطهر الضمائر من ادران الحياة.
في وسط المجلس جلس شيخ وقور عليه سيماء التقوى الممزوجة بالحزن وراح يشعل التاريخ لتسطع جذوة الدماء على شفتيه ويبث في سامعيه صدى صهيل الخيول وقعقعة السيوف وآهات الاطفاء ولوعة الظمأ كان وجهه ممتلأً بالطمأنينة فعندما تخلص النفوس وتطفح الطهارة على إهاب الجسد، وكان مما يزيد هذا الموقف خشوعا وجلالا انه كان قريبا جدا من ذلك المكان الذي اطلقت فيه الصرخة المدوية بوجه الظلم فبقيت اصداؤها تحكي روعة الثورة المعطاء ووعظمة قائدها فتحولت تلك الاصداء الى صرح شامخ يدعى بـ ( تل الزينبية) كانت النجوم تشتد سطوعا على ذلك الصرح في تلك الليلة من ليالي الجمعة وكأنها تنبض بالجراح وتردد صدى صوت الشيخ في ارجاء (تل الزينبية):
كيف تهنيني الحياة وقلبي
بعد قتلى الطفوف دامي الجراح
بابي من شوا لقاء حسين
بفراق النفوس والارواح
وقفوا يدرؤون سمر العوالي
عنه والنبل بالوجوه الصباح
فئة ان تعاور النقع ليلا
اطلعوا في سماه شهب الرماح
وحانت من الشيخ التفاتة فلفت نظره رجل نحيف الجسم جالسا في اقصى المجلس وقد وضع رأسه بين ركبتيه وهو يبكي بكاءً حارا ويرفع رأسه بين الفينة والاخرى ليمسح دموعه الغزيرة عن عينيه المحتقنتين كان يرتدي عمامة سوداء ترمز الى انه من نسل رسول الله (صلى الله عليه) وآله فواصل الشيخ نعيه الحزين:
حر قلبي لزينب إذ رأته
ترب الجسم مثخنا بالجراح
اخرس الخطب نطقها فدعته
بدموع بما تجن فصاح
يا منار الضلال والليل داج
وظلال الرميض واليوم ضاح
فبرغمي اني اراد مقيما
بين سمر القنا وبيض الصفاح
لك جسم على الرمال ورأس
رفعوه على رؤوس الرماح
بابي الذاهبون بالعز والنجدة
والبأس والهدى والصلاح
بدت ملامحه مترعة بالحزن عندما نظر اليه الشيخ وقد زادتها حبات الدموع المنهمرة على لحيته روعة وجمالا، انهى الشيخ المجلس بعد الدعاء ثم قام، ولم يعرف ما الذي شدّه نحو ذلك السيد فقد شاهد في عينيه بريقا غريبا جعله ينجذب اليه فتخطى الجالسين وفي رأسه فكرة السلام على ذلك السيد، لكأن صوتا في داخله يحثه على ذلك كما احس ان لهذا السيد علاقة بما كان يقرأ في مجلسه الحسيني ففاجأه السيد بقوله وكأنه كان يعلم ما في داخل الشيخ: جزاك الله خيرا حيث اثرت قراءتك تأثيرا بيلغا، ثم استطرد قبل ان يرد عليه الشيخ: يا شيخ اتعرف رضا الهندي؟! فقال له الشيخ: اني احفظ كثيرا من شعره لكنني لم اره فقال له السيد: انا السيد رضا الهندي وهذه احدى القصائد التي نظمتها في رثاء الحسين (عليه السلام) واعلم اني منذ نظمتها ما بكيت مثل بكائي هذا اليوم عندما سمعتك تقرؤها لقد تأثرت بقراءتك كثيرى فجزى احدهما الآخر خيرا ثم افترقا اما ذلك الشيخ فكان المرحوم عبد الزهراء الكعبي خطيب المنبر الحسيني الكبير.
*العلم والأدب في مسيرة واحدة
لم نسرد هذه القصة الا لأثر الدلالة العميق الذي يشير الى ان الحدث الحسيني كان حاضرا دائما في ذهن و وجدان شاعرنا السيد رضا الهندي ولم يغب عن باله بل انه يراه مجسدا في كل ما يثير اشجانه ولواعجه فان هذا التماهي بين الشاعر وحزنه على الامام الحسين عليه السلام يؤكد هذا الاثر العميق في صدق شعوره واخلاص مشاعره اما شعره فكما يقول عنه معاصروه فانه: لا يكاد يحصر كثرته وقد خص آل البيت بديوان ضخم توزع بين المدح والرثاء واغلبه في رثاء الامام سيد الشهداء (عليه السلام).
ولد السيد رضا بن محمد بن هاشم بن مير شجاعة علي النقوي الرضوي الموسوي الهندي في النجف الاشرف عام 1290هـ 1873م ونشأ بها ولعا بآداب العرب واخبار الادب ولما بلغ عمره ثماني سنوات انتقل مع والده الى سامراء عام 1298 وهو عام الطاعون فبقي فيها ثلاث عشرة سنة ثم عاد مع والده الى النجف فبدأت رحلته مع العلم والادب فدرس على يد اعلام عصره من العلماء الافذاذ امثال والده والسيد محمد الطباطبائي والشيخ محمد طه نجف والشيخ محمد حسن بن صاحب الجواهر والملا محمد الشربياني كما حضر درس الشيخ العلامة ملا كاظم الخراساني وقد اجازه ابوه والشيخ اسد الله الزنجاني والسيد حسن الصدر والسيد ابو الحسن الاصفهاني فنشأ شاعرنا شخصية فذة امتلك من المواهب العلمية والادبية ما جعله موضع الاكبار والاجلال بين علماء وادباء عصره يقول عنه صاحب الحصون المنيعة في جـ9 ص207 : فاضل معاصر وشاعر بارع وناثر ماهر له إلمام بجمله من العلوم ولسانه فاتح كل رمز مكتوم معرفته بالفقه والاصول لا تنكر وفضائله لا تكاد تحصر رقيق الشعر بديعة سهلة ممتنعة خفيف الروح حسن الاخلاق طيب الاعراق... الخ كما ذكره السيد محسن الامين في اعيان الشيعة جـ32 ص77 فقال: كان علاما فاضلا واديبا شاعرا من الطبقة الممتازة بين شعراء عصره رأيناه في النجف.. الخ... كما اثنى عليه بمثل هذا الشيخ جعفر النقدي في (الروض النصير) ص387 وصاحب الطليعة الذي قال فيه: عالم فاضل معاصر واديب شاعر شعره من الطبقة العالية قوة ورقة وانسجاما الخ... ثم ذكر قسما من شعره.
*الذوبان في الإمام الحسين (ع)
امتاز شاعرنا بعلمية واسعة في العقائد والاصول وجادل فيهما للدفاع عن المذهب شارك في كثير من المبدائ المقدسة وخلق الجو الاسلامي الروحي في المجتمع وهو كما يصفه معاصروه ناكر لذاته فلا يعبأ بالزعامة ولا يسعى لها رغم ما فيه من توفر عناصرها كما كان ثرا في نثره وتأليفه فقد الف كتبا قيمة منها: (الميزان العادل بين الحق والباطل) وهو كتاب في الاديان و(بلغة الرحيل) في المعتقدات والاخلاق و(العروض) و(شرح الطهارة) و(سبيكة العسجد) وهو كتاب في الادب والتاريخ اضافة الى ديوانه الضخم الذي قسمه الى قسمين الاول في مدح ورثاء اهل البيت عليهم السلام والثاني في المتفرقات كما لشاعرنا عدة رسائل ومصنفات في الادب والتاريخ وليس ادل على شاعريته من قصيدته (الكوثرية) التي يمدح فيها الامام علي عليه السلام وهي اشهر من ان تعرف اما في رثاء الحسين عليه السلام فقد كان يفرغ عن مهجة حرى وهو يندب سيد الشهداء وآله وصحبه الكرام يقول في احدى رثائياته:
لم انسه اذ قام فيهم خاطبا
فاذا هم لا يملكون خطابا
يدعو الست انا ابن بنت نبيكم
وملاذكم ان صرف دهر نابا
هل جئت في دين النبي ببدعة
ام كنت في احكامه مرتابا
ام لم يوصّ بنا النبي واودع
الثقلين فيكم عترة وكتابا
ان لم تدينو بالمعاد فراجعوا
احسابكم ان كنتم اعرابا
فغدوا حيارا لا يرون لوعظه
الا الاسنة والسهام جوابا
ثم يتابع شاعرنا رسم الاحداث في يوم عاشوراء الى الصور المؤثرة فيقول:
صلت على جسم الحسين سيوفهم
فغدا لساجدة الضبا محرابا
ومضى لهيفا لم يجد غير القنا
ظلا ولا غير النجيع شرابا
ظمآن ذاب فؤاده من غلة
لو مست الصخر الاصم لذابا
لهفي لجسمع في الصعيد مجردا
عريان تكسوه الدماء ثيابا
وفي قصيدة اخرى نرى صوت الشاعر يندب الامام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف في بداية مرثيته فيقول:
يا صاحب العصر ادركنا فليس لنا
وردٌ هني ولا عيش لنا رغد
طالت علينا ليالي الانتظار فهل
يا ابن الزكي لليل الانتظار غد
فاكحل بطلعتك الغرا لنا مثلاً
يكاد يأتي على انسانها الرمد
ثم يتخلص الى يوم الطف فيتماهي صوته مع صهيل الخيول وصليل السيوف فيقول:
تجمعت عدة منهم يضيق بها
صدر الفضا ولها امثالها مدد
فشد فيهم بأبطال اذا برقت
سيوفهم مطروا حتفا وما رعدوا
صالوا وجالوا وادبو حق سيدهم
في موقف عق فيه الوالد الولد
وهكذا شاعرنا في كل قصائده الرثائية فقد كانت كربلاء آهة حزينة في شعره مصبوغة بدماء الشهداء تتجدد في شعره فتتجدد احزانه ولواعجه توفي شاعرنا عام 1362هـ ـ 1943م في ناحية الفيصلية من نواحي الديوانية وهو آنذاك وكيلا للمرجع الكبير السيد ابو الحسن الاصفهاني بالسكتة القلبية وحمل جثمانه الى النجف الاشرف ودفن بمقبرته الخاصة قرب داره في محلة الحويش ورثاه الكثير من شعراء عصره منهم الشيخ عبد الحسين الحلي بقصيدة طويلة مطلعها:
لا تلها تنتشي من بعد ريا
ليس في الاكوان شيء من حميا
كما رثاه السيد محمد جمال الهاشمي بقصيدة مطلعها:
اعد فبأسمك دنيا الشعر تحتفل
انشودة هام في الحانها الازلُ
|
|