الشيخ الانصاري .. قمة في العلم وقمة في الاخلاق
|
*إعداد / علي عبد الخالق
يحاول كل باحث وعالم أن يأتي بجديد ومبتكر الى ابناء مجتمعه سعياً منه لحملهم الى مراتب التقدم والتطور وتحقيق الطموح بتغيير الحياة البشرية نحو الافضل. وكل ما نشهده من تقدم علمي وصناعي في عالم اليوم إنما هو بفضل تلك الجهود المضنية والابحاث والمطالعات التي عكف عليها العلماء في سالف الزمان.
واذا كان للابداع والابتكار اهمية في العلوم التقنية والطبيعية، فانه ذو اهمية كبيرة في علوم الدين مثل الفقه والاصول، لأن الطب والهندسة والقانون والطاقة وغيرها، تعد علوماً منفصلة عن بعضها البعض، وكل في اختصاصه، بينما عالم الدين يبحث ويدرس في علم -وهو الفقه- له علاقة بجميع نواحي حياة الانسان، من الدنيوية والاخروية، فكما يهتم بالجانب العبادي والمعنوي، فانه يهتم بالتجارة والمال والزواج والقضاء والاطعمة، وبشكل عام يهتم بعلاقة الانسان بنفسه أولاً ثم بمحيطه ومجتمعه ثم علاقته بالله تعالى. وهنا تتجلى اهمية وضرورة التجديد والابداع في استخراج المسائل والاحكام الدينية والاجابة على مختلف الاسئلة التي تخرج الينا مع تطور العلوم المختلفة.
ومن الواضح أن العلوم الدينية عامة وعلم الفقه وعلم أصول الفقه خاصة لم تكن يوم ظهورها بهذه السعة والتطور التي هي عليه اليوم، إنما وصلت الى هذه الدرجة بفضل جهود كثيرة وسعي حثيث وتدقيق متزايد من قبل العلماء والفقهاء المسلمين وبالأخص فقه الشيعة، وقد سجل التاريخ لهؤلاء جهودهم التي لا تنسى بدءا بالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والسيد المرتضى والشهيدين والمحقق والعلامة وانتهاءً بالمتأخرين والمعاصرين منهم، والذين كانوا ولا يزالون يضيئون سماء العلوم الإسلامية كالنجوم الزاهرة، لكن من بين أولئك الأعاظم نجد للشيخ مرتضى الأنصاري (رضوان الله عليه) تألقا آخر يستحق لأجله الإكبار والاجلال في ذكرى وفاته التي تمر هذه الايام.
الانصاريّ الاصل .. المهاجر الى العلم
انه مرتضى بن محمَّد أمين بن مرتضى بن شمس الدين الأنصاري، ينتهي نسبه إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري الصحابي الجليل، أحد علماء الشيعة، ولد في مدينة ديزفول جنوب إيران سنة 1214هـ.
ينحدر من أسرة علمية عُرفت بالصلاح والتَّقوى، تعلّم قراءة القرآن والكتابة وهو في الخامسة من عمره، وأخذ بعدهما في دراسة الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان على والده وعلى فضلاء مدينته، ثُمَّ قرأ المقدّمات عند عمّه الشيخ حسين، إلى أن صار عمره عشرين سنة.
سافر مع والده لزيارة مراقد الأئمة الاطهار عليهم السلام في العراق فوصل كربلاء، وكانت الرئاسة العلمية يومئذ فيها لرجلين: السيِّد محمَّد المجاهد، وشريف العلماء المازندراني، وما أن حضر الشيخ الأنصاري بصحبة والده عند السيِّد المجاهد حتى أعجب به السيِّد في أوّل لقاء، فاهتم به وأحاطه بعنايته الخاصة، ورعايته المستمرة، وبقي الشيخ يستفيد منه، وايضاً من الشيخ شريف العلماء المازندراني حتّى عام 1236هـ، حيث عاد بعد ذلك إلى موطنه ديزفول. وبقي فيها يدرس ويربي مدّة سنتين، ثُمَّ عاد إلى كربلاء، فحضر على أستاذه شريف العلماء المازندراني، وبعد ذلك هاجر إلى النجف الأشرف، فحضر درس الشيخ موسى كاشف الغطاء.
بعد ان قام بجولة في ربوع إيران عاد إلى وطنه ديزفول، وبقي خمس سنين، ثُمَّ سافر إلى النجف الأشرف، وكانت الزعامة العلمية آنذاك لرجلين: الشيخ علي كاشف الغطاء، والشيخ محمَّد حسن ـ صاحب الجواهر ـ فأخذ يتردّد للحضور إلى درسيهما.
استقل بالتدريس والتأليف، واختلف إليه طلاب العلوم الدينية، وقام بوضع أساس علم الأصول والحديث عند الشيعة.
انتهت إليه رياسة الإمامية بعد وفاة الشيخ محمَّد حسن ـ صاحب الجواهر ـ وقام بها خير قيام، وازدهرت الحوزة في زمانه، بحيث خرّجت ثلّة كبيرة، من العلماء والفضلاء.
بقي يزاول مهامه الدينية من التدريس والتأليف، والإرشاد والقيادة، إلى أن طعن في السن، وقرب عمره من السبعين، وقد أنهكته المسؤولية الثقيلة، فوافاه الأجل سنة 1281هـ، في النجف الأشرف ودفن هناك.
التجديد والابتكار في العلوم الدينية
ليس من السهل في الحوزات العلمية على مر القرون الماضية ان يأتي احد العلماء بجديد ليضيف الى منهج الدراسة، لأن القضية تتعلق باحكام تمتد جذورها الى تراث أهل البيت عليهم السلام وسيرة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وقبل ذلك القرآن الكريم، ومن اجل ذلك نجد شدّة الاحتياط والتأني والحذر يتوخاه علماؤنا الافاضل من التفوّه بكلمة او اصدار حكم معين دون التأكد والتحقق من صوابه. ولكن شيخنا الكبير والذي بات يلقب اليوم في حوزاتنا العلمية بـ (الشيخ الاعظم)، بلغ من العلم مراتب أن وجد نفسه مسؤولاً عن التجديد وتقديم الافضل من المناهج وطريقة استنباط الاحكام، وقد تجلّت عظمة الشيخ الانصاري في كتابيه الشهيرين: (المكاسب) في الفقه، و(الرسائل) في الاصول، وقد ضمّ هذان الكتابان جملة من الابتكارات والاساليب الجديدة اتبعها الشيخ (رحمه الله) نذكر منها:
1- نقل أراء وأقوال العلماء الماضين بكل اهتمام واحترام، وأحيانا النظر إليها كما ينظر الى الروايات المأثورة عن الأئمة عليهم السلام، والتدقيق في فهم كلماتهم والاستعانة بتلك الأقوال لاستظهار الفتوى والحكم الشرعي. وقلما نجد مثل هذه الخصلة في الكتب الفقهية والأصولية للعلماء الآخرين، لكننا نراها في كتابه الأصولي ( الرسائل ) وكتابه الفقهي ( المكاسب ).
ففي كتاب الرسائل يتطرق الشيخ الى أقوال الإخباريين في بحث حجية العقل، كما يتطرق الى أقوال الشيخ الطوسي والسيد المرتضى والمحقق في بحث حجية خبر الواحد، ويتطرق الى أقوال ابن قبة في حجية الظن وغير ذلك. وفي كتاب المكاسب في بحث بيع الوقف يتطرق ضمن صفحتين من القطع الكبير الى أقوال العلماء فيه، بدءاً من الشيخ المفيد وانتهاءً بالشيخ صاحب الجواهر المعاصر له ويستخرج من خلال استعراضها ومناقشتها صورا مختلفة لمسألة الوقف.
2- عدم الانحياز للرأي الشخصي وتربية الأذهان على مباني الأقوال وعدم التوقف على رأي واحد ، مما يؤدي الى تقدم العلوم وتهيئة الذهن لاكتشاف طرق جديدة ، وأبعاد التقوقع والركود الفكري. وهذه إحدى خصائص الشيخ الأعظم التي نلمسها في كتبه ، ففي الوقت الذي نراه يستدل على قول من الأقوال استدلالا قويا بحيث يترائى للقارئ بان هذا الرأي هو كالوحي المنزل لا يمكن دفعه ورفضه، تراه بعد ذلك وبقوله: (اللهم إلاّ أن يقال) يعمد الى بيان رأي وقول آخر في نفس البحث وبأسلوب جديد يبطل معه القول السابق ويثبت القول الجديد، وحينئذ وبقوله: (ويمكن أن يقال) يستدل على بطلان القول الثاني ، وبعده وبقوله : (لكن الإنصاف) يفتح افقا جديدا أمام ذهن القارئ .
3- في تاريخ علم الفقه كان كتاب شرائع الإسلام ومنذ زمن المحقق الحلي (رحمه الله) محورا للدراسات الحوزوية العليا (الخارج) ومحورا للكتب الفقهية المدونة ألا انه بعد ظهور كتابي (الرسائل) و(المكاسب) أضحى هذان الكتابان محوري دروس الخارج والكتب المؤلفة في الفقه والأصول، وهذا الاتجاه إنما كان نتيجة لما ابتكره الشيخ وأودعه في هذين الكتابين .
4- ومن ابتكارات الشيخ المهمة في علم الأصول والتي لم تكن معروفة في كتب المشهور قبل كتاب الرسائل تقسيمه المكلف من حيث التفاته الى الحكم الشرعي الى ثلاثة أقسام من جهة حصول القطع أو الظن أو الشك ثم تبويبه البحوث على أساس هذه الأقسام الثلاثة .
5- إدخال أحكام القطع والعلم في أصول الفقه حيث لم يعهد ذلك قبل الشيخ (رحمه الله ) مع تلك الأبحاث المتنوعة مثل حجية القطع الذاتية، وتقسيم القطع الى الطريقي والموضوعي، ومسائل التجري، وحجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية والمقدمات الشرعية قبالة الإخباريين المنكرين لحجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية، وحجية قطع القطاع، وأبحاث العلم الإجمالي من حيث إثبات التكليف به أو إسقاطه به وبقية الأبحاث المرتبطة بذلك .
6- الدخول في أبحاث حجية الظن وإمكان التعبد عقلا قبالة ابن قبة القائل بالامتناع ، وحجية الامارات بنا للمصلحة السلوكية ودفع إشكال التصويب الباطل في حجية الأمارات ، وتأسيس الأصل في عدم حجية كل ظن مشكوك الحجية وانه يكفي في إثبات عدم حجية الظن الشك في حجيته ولا حاجة لإثبات عدم الحجية أو أصالة عدم الحجية .
7- اعتبار بعض الأصول حاكمة على الأصول الأخرى ، كما في موارد الأصل السببي الحاكم على الأصل المسببي ، يعني متى ما تمسكنا بالأصل الأول فلا يصل المجال الى التمسك بالأصل الثاني ، مثاله: متى ما غسلنا الثوب النجس بماء مشكوك الطهارة فنحن نشك في ان الثوب طهر أم لا، فهنا أصل (استصحاب طهارة الماء) ويجري في طرف المادة وهناك أصل آخر يجري في طرف الثوب وهو (استصحاب النجاسة)، لكن متى ما تمسكنا بالأصل في طرف الماء، وأثبتنا الطهارة الشرعية بأصالة الطهارة وباستصحاب طهارة الماء، ثبتت طهارة الثوب المغسول بالماء الطاهر شرعا، وسوف لا تصل النوبة للتمسك باستصحاب النجاسة في الثوب.
8- التعرض لمباحث البراءة العقلية والشرعية بصورة مفصلة وشاملة وتقسيم الشبهة الى حكمية وموضوعية ووجوبية وتحريمية وذكر سبب الشبهة من عدم النص أو إجمال النص أو تعارض النصين ، والاستدلال على البراءة بالآيات والروايات والإجماع والعقل ورد شبهات الإخباريين في وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية مع ذكر أدلتهم من الكتاب والروايات والرد عليهم بأحسن ما يكون ، بحيث لم يرد مثل ذلك في الكتب التي سبقت الشيخ ( قده ) .
9- ذكره لقاعدة لا ضرر والاستدلال عليها والتي لها اثر مهم في الأبحاث الفقهية وتمهيد الطريق لاستنباط الأحكام الشرعية .
العالم والخلق الرفيع
كانت عادة الشيخ الأنصاري (رحمه الله) أنه بعد رجوعه من مجلس درسه، يذهب مباشرة إلى
والدته ليسليها وقد بلغت من العمر عتيّا، فكان يجالس والدته العجوز ويحادثها ويسألها عن أوضاعها واوضاع الناس و يمازحها، ثم يذهب إلى غرفة المطالعة والعبادة.
ذات يوم قال الشيخ لأمه: أتذكرين أيام طفولتي، عندما كنت منشغلاً بدراسة المقدمات، وكنت ترسلينني
لقضاء حوائج البيت، فكنت أؤجلها إلى ما بعد الإنتهاء من الدرس والمباحثة، فكنت تغضبين وتقولين: أنا بلا خَلَف...! فهل ما تزالين الآن بلا خَلَف؟ في اشارة منه الى انه قد بلغ مرتبة المرجعية الدينية، واصبح شخصية مرموقة في المجتمع. أجابت بالقول مازحة: نعم، ما زلت كذلك، لأنك آنذاك لم تكن تقوم باحتياجات البيت، واليوم لشدة احتياطك في صرف الأموال الشرعية ضيقت علينا الخناق!
هناك العديد من الحكايات تروى عن ا لشيخ الانصاري في ورعه وتقواه الشديدين فيما يتعلق بمسألة الاموال وصرفها، وكانت أسرة الشيخ وبيته مثالاً بارزاً ودرساً لنا جميعاً في الشخصية العلمائية النموذجية التي يريدها منا أهل البيت والله تعالى.
ففي فترة زعامة الشيخ الأنصاري وقيادته، وعندما كان سيل الحقوق الشرعية يصب عنده من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كانت عائلة الشيخ تعيش ظروفاً معيشية قاسية، لأن الشيخ كان قد خصص للمنزل مبلغاً لا يكاد يذكر.
وذات يوم حدثت عائلة الشيخ أحد العلماء الذي كان يحظى باحترام خاص لدى الشيخ الأنصاري، شاكية له، وطلبت منه أن يفاتح الشيخ بذلك ليزيد المبلغ المقرر للمنزل. فاستجاب الشيخ لهذا الطلب وتوجه الى الشيخ الانصاري وشرح له الحال، لكن الشيخ (رحمه الله) بقي مستمعاً ولم يعلق بشيء لا نفياً ولا إثباتاً. وفي اليوم التالي عندما جاء الشيخ للمنزل وقال لزوجته: إغسلي ثيابي واحتفظي بماء الغسالة، وفعلاً قامت الزوجة بذلك وأخبرت الشيخ، فطلب منها إحضار ذلك الماء الوسخ فأحضرته، فما كان منه إلا أن قال لها: إشربي هذا الماء! فتعجبت من طلبه وقالت: ما هذا الذي تأمرني به، وهل يشرب عاقل هذه القذارة؟ قال: إذن اسمعي جيداً وتأملي بدقة، هذه الأموال التي بين يدي هي عندي مثل هذا الماء القذر، فكما أنك لا تستطيعين ولا تريدين أن تشربي من هذا الماء، كذلك أنا لا أستطيع أن أصرف من هذا المال، لأنه لا يحق لي، ولا يجوز أن أعطيكم أكثر مما أعطي الآن، إن هذه أموال الفقراء، وأنتم وسائر الفقراء عندي
بمنزلة واحدة.
توفي الشيخ مرتضى الانصاري (رحمه الله) في الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة 1281 للهجرة، وترك خلفه آثاراً عظيمة للحوزة العلمية وعلوم أهل البيت عليهم السلام وايضاً للانسانية والاجيال، لكنه لم يخلف مالاً ولا عقاراً لانبائه واحفاده ليكون خير مثال وقدوة لنا في طريق العلم وقيادة المجتمع الاسلامي.
|
|