الاتجاه الرسالي في تفسير من هدى القرآن الكريم (القسم الرابع)..
المجتمع الرسالي.. معيار العقيدة قبل الإنتماءات الخاصة
|
*السيد محمود الموسوي
بعد أن جرى الحديث في القسم الثالث عن المنطلقات الرسالية في تفسير القرآن الكريم، وتناولنا أولاً: الايمان بالله والتسليم له، والمنطلق الثاني: القيادة.. نتناول في القسم الرابع الانتماء للتجمع الرسالي..
3- الإنتماء للتجمّع الرسالي
إن الأساس الثالث من أجل ضمان صحة المنطلقات الرسالية، هو أن لا يكون الإنسان في تحركه فردياً، بل لابد أن ينتمي للتجمع الرسالي، فتحت عنوان (واجبات وأولويات المؤمن) يقول السيد المدرسي: ثلاثة واجبات متكاملة ينبغي أن يعقد المسلم عزمه على تحقيقها:
أولاً: الإيمان المستقر في قلبه.
ثانياً: التقوى وتنفيذ سائر الواجبات الإسلامية.
ثالثاً: أن يكون مع الصادقين وهم التجمع الرسالي، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة/ 119).
وأي واحد من هذه الواجبات الثلاثة لا يكتمل من دون سائر الواجبات، وبالذات الإنتماء إلى تجمع الصادقين، والتفاعل معهم ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً ومشاركتهم الهموم والآمال، ذلك لأن هذا التجمع حصن الإيمان ولأن ضغط الحياة وتحدياتها كبيرة ولا يستطيع المؤمن أن يواجهها وحده.
ويؤكد السيد المدرسي هذا البعد في أكثر من جانب منها في تفسير سورة الكهف في الآية الكريمة: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً" (الكهف/ 28)، تأكيداً على فكرة الإنتماء للجماعة الإيمانية والالتزام بها ودفع ضريبة ذلك الإلتزام.
من هم الذين ننتمي إليهم؟
اجابة على هذا التساؤل، يقول السيد المدرسي: (إنهم العابدون لله ليلاً ونهاراً، ولكن الإنتماء إلى خطهم صعب وبحاجة إلى صبر "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" ابحث عن هؤلاء وانتمِ إليهم، وتجاوز العقبات، وضحّ من أجل انتمائك إليهم، ولا تبحث حينها عن فوائد ومصالح خاصة، بل وطّن نفسك على العطاء، لذلك أكّد القرآن هنا على كلمة الصبر) .
ومن أهم صفات الرساليين – يتابع السيد المرجع المدرسي: (إنهم لا يفكرون في أنفسهم كأفراد، إنما كقيم وكجماعة وكأمة، فلا يفكر أحدهم في ذاته.. فهو ربما يقتل في المعركة، فيقول: إذا قتلت فسوف يأتي الآخرون ويتابعون مسيرتي، فالمهم عنده أن تنتصر القيم، لا أن ينتصر هو نفسه)، وإذا بقيت فسوف أرث الشهداء الذين أريقت دماؤهم في هذا الطريق، وأتابع دربهم، وأفي بحقوقهم، فأنا مسؤول أمام الله عما أرثه من دماء الشهداء. فشعور المؤمن إذن شعور اجتماعي لا فردي.
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ"، وصار شهيداً في سبيل الله "َمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ" لقاء الله ويستعد له، فالمؤمنون متماسكون كالبنيان المرصوص، بعضهم يمضي ويبقى البعض الآخر ليكمل مسيرته، دون أن يفكر أحدهم في نفسه وشهواته، ويقول لماذا أنا الذي أقتل وليس فلان؟ ولماذا أنا الذي أقتل ويبقى فلان يتنعم بالنصر والمكاسب؟ كلا.. فالقضية قضية صراع مستمر، فكل واحد يؤدي دوراً معيناً فيه.
صفات المجتمع الرسالي
يقول السيد المرجع المدرسي: (المجتمع المستقر الراكد ليس مجتمعا رسالياً ولا مسلماً، لأن الإسلام الحقيقي هو الاهتمام بشؤون الآخرين، والدفاع عن حقوق المستضعفين إلى درجة الجهاد من أجلهم، والمجتمع الإسلامي لا يجمد في حدود اقليمية ضيقة، ولا يقول بناء الوطن أولاً، ثم الإنطلاق لإصلاح الآخرين لأنه لا وطن للفضيلة والخير، ولا حدود للعدالة والرفاهية.. وهكذا كان الرسول نذيرا للعالمين، وهكذا كان يجب على أهل المدينة وهم أبناء المجتمع الإسلامي الأول أن يتبعوا الرسول (ص) في حمل رسالته بلاغا وتنفيذا، قولاً وعملا، "مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ" فيقعدون في بلدهم ويطبقون الإسلام ويقولون علينا بإصلاح بلدنا وحده. كلا.. كان عليهم أن يسيروا في الأرض كما كان يسير رسول الله (ص) ويحملوا على أكتافهم مشعل الرسالة إلى كل مكان، أو كانت نفوسهم أعز من نفس رسول الله (ص)؟! أن نفس رسول الله (ص) تتعرض للمصاعب والأخطار بينما نفوسهم آمنة في المدينة).
ويعد (النبي إبراهيم (ع) – يضيف المرجع المدرسي- مثالٌ للثائر الرافض للخطأ الاجتماعي، ولخطأ الآباء، والله يأتي به حجة على الذين أشركوا بهما فحكى عنهم القرآن: "أنهم ألفوا ...." حتى يقول: "فهم على آثارهم يهرعون"، فإبراهيم ـ على خلاف هؤلاء ـ تحمل مسؤوليته وأعمل عقله ولم يقدّس الأشخاص ولا التراث على حساب القيم، وهذا ما يجب على الإنسان تجاه أبيه ومجتمعه، فليس من السليم أن يتقبل منهما كل شيء، ويفقد استقلاله أمامهما، إنما يتقبل الجيد ويعترض على ما هو سلبي بالأسلوب المناسب .
ومن هنا يؤكد المرجع المدرسي على (ان الولاء في المجتمع المسلم يجب أن يكون للعقيدة قبل أي شيء آخر، فحتى الولاء العائلي الذي يجبه الإسلام ويعدّ الأسرة الوحدة الاجتماعية الضرورية، يجب أن يكون في إطار الولاء الإيماني لا منافساً له، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ" وقد كان هذا الإنتماء الرسالي الخالص سبباً في انتصار الرسالة في عصر الرسول..)
والفرق بين تركيبة المجتمع المسلم الرسالي وبين المجتمعات الأخرى – يقول المرجع المدرسي- أن الحبل الرابط بين أبناء المجتمع الرسالي هو المبدأ فالإيمان بالإسلام هو الذي يجعل مجموعة من البشر المختلفين (ثقافياً، طبقياً، عنصرياً، لوناً، ولغة، وقومياً) يذوبون في بوتقة الأمة الواحدة القيادة القويمة القوية، وكل فرد يسلم عملياً ونفسياً لهذه القيادة، ويجعل إنتماءه إليها مشروطا بمدى تجسيد القيادة للقيم الرسالية وتنفيذها للواجبات الدينية، لذلك ترى القيادة هنا متحررة من الضغط والأغلال فلا تخشى إنهيار صرح فيادتها لو خالفتها طبقة أو سحقت امتيازاً أو ألغت عشائرية شاذة، فالإنتماء إلى القيادة ليس على أساس المصالح المادية حتى إذا فقدت القيادة الثروة وضعفت أو انهارت، ولا هي قائمة على أساس عشائري أو قومي حتى تكون قائمة على ظلم سائر العشائر والقوميات، واعطاء المزيد من الامتيازات لهذا أو ذاك، كلما شعرت بالضعف، أما المنافقون فإنهم يريدون القيادة بقرة حلوب يحبونها مادامت تعطيهم لبنا سائغا، وإلا فهم ينقلبون عليها "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ" أي يتصرف بطريقة توحي باستعطائك من الصدقات) .
وفي المقابل يشير سماحته إلى أن أساس الإنتماء هو الحق، وأن علاقة المنتمين ببعضهم هي علاقة انسجام وتآلف فيما بينهم، حيث تربطهم الوشائج المتينة (إنسانية وإيمانية)، كما هي دلالة كلمة (حزب) في قوله تعالى: "أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ".. (فإنك لا تجد في أنفسهم حقداً ولا غلاً ولا إصراً على بعضهم وعلى إخوانهم المؤمنين، ولا مظهراً لروح الفردية، وعلى أساس هذا التعريف الواسع لحزب الله فإنه لا يمكن أن نحصر مصاديقه في جماعة معينة، إنما هو جبهة كل المؤمنين الصادقين) .
الرؤية السليمة..
من أهم المنطلقات التي تؤسس عليها الحركة الرسالية، هي سلامة الفكرة والرؤية السليمة المتمثلة في الحق، ففي الإطار العام لسورة الحديد يحدّد السيد المدرّسي أهم السمات في الحركة الصادقة، اعتماداً على معطيات السياق القرآني للسورة، ويقول: (إن أهم السمات في الحركة الصادقة والتي تعدُّ بيِّنَات على سلامتها هي الآتية:
السمة الأولى: الانبعاث باسم الله رب العالمين، أما الانطلاقة الضالة التي تبدأ من ثقافة الشرك والجحود فإنها آية واضحة على خطأ الحركات التي ترتكز عليها، والرسل وحدهم انطلقوا باسم الله وبأمره الذي تلقوه عبر الوحي بعد اختيارهم من قبله تعالى، وحيث ختم الله عهد هذا النوع من الحركات بنبيه محمد (ص) فإن الحركة الصادقة هي التي تكون امتدادا لهم (عليهم السلام) وبزعامة الأوصياء والربانيين والعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه والأولياء والقادة الرساليين.
السمة الثانية: المنهج الرباني الأصيل، والمتمثل في الرسالات التي أكملها وختمها ربنا بالقرآن الذي حفظه من التحريف، وجعله مهيمنا على الكتب، فإنه المنهج الأصيل والوحيد الذي يجب اتباعه، واتباع هداه وبصائره، أما المناهج القائمة على الجهالة والإفراط واتباع الأهواء فهي لا تصلح وسيلة مناسبة للنجاح، لأنها إن أخرجت الناس من ظلمات فلكي تدخلهم في مثلها، أو أنقذتهم من عبودية فإلى عبودية مثلها أو أسوأ منها.
السمة الثالثة: الأهداف السامية، والتي يلخصها القرآن في العدل - قيام الناس بالقسط- وهذا المفهوم واسع يشمل ردم الهوة بين الطبقات الاجتماعية ولايتجسس عليه، إذ هو الالتزام الحق والإنصاف من قبل الإنسان في كل أبعاد حياته وعلاقاته، في علاقته بربه وقيادته، وفي علاقته بنفسه ومجتمعه وفي علاقته بالخليقة والطبيعة من حوله. وإنما يعرف مدى قيامه بالقسط من خلال الميزان و الفطرة، والعقل، والكتاب، والقيادة الرسالية.
والحركة الرسالية هي التي تسعى إلى ذلك بالكلمة الصادقة أو بالقوة الضاربة وكل ذلك بالعدل. التي يجب على الناس تبنِّيها، وإعانتها، والانتماء إلى صفوفها، لأنها تجاهد للحق ومن أجل سعادتهم، ولأنها المحك في نصرتهم لله ولمسيرة الأنبياء والمرسلين) .
|
|