ابن الفوطي.. مؤرخ الشعب
|
*محمد طاهر محمد
هو عبد الرزاق بن احمد الذي اشتهر بعد ذلك بـ (ابن الفوطي) ولد في محرم عام 642 هـ ببغداد وكانت ولادته بعد مضي سنتين من خلافة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين ولايُعرف شيء عن بواكير حياته الاولى سوى مايظنه بعض المؤرخين من انه ولد في محلة (الخاتونية) القريبة من دار الخلافة وانه عاصر منذ حداثة سنّه قبل سقوط بغداد الصاحب محي الدين ابن الجوزي أحد قتلى واقعة بغداد واستمع اليه. أما لقبه الذي التصق به (ابن الفوطي) فقد جاءه من قبل جده لأمهِ وهو منسوب الى الفُوط ـ جمع فوطة ـ وهي نوع من الثياب وان هذا الجد كان يعمل في صنع الثياب وبيعها.
يفهم مما تقدم من بدايات حياة (ابن الفوطي) انه نشأ في ظروف عادية لا اثر فيها لسابقة علمية أو أدبية لاسرته ولا قدم لها في هذين المضمارين سوى انه كان في حداثة سنه أحد من المئات الذين استمعوا الى ابن الجوزي. اذن ما الذي جعل (ابن الفوطي) يحوز السبق في هذين الجانبين وان يكون قيماً لاكبر مكتبة في المشرق وهي مكتبة (المستنصرية) وان يذكره المؤرخون في أول صفوفهم كما يذكره المحدّثون في رأس حفّاظهم، فقيهاً وفيلسوفاً ومؤرخاً ورياضياً وكاتباً وشاعراً ؟!
للاجابة على هذه الاسئلة تقصيّنا الاحداث التي رافقت حياة هذا الرجل، والتي احدثت فيها هذا التحول الكبير.
في عام 656 هـ دخل المغول بغداد فجرت فيها مذابح وفواجع وسلب ونهب واحراق وأسر وسبي وكان من ضمن الاسرى الذين وقعوا في أيدي المغول صبي لم يتجاوز الاربع عشرة سنة من عمره فأقتيد ضمن عشرات الالاف من الاسرى ممن يصلح للخدمة في الدور والدواوين وقصور الحكم، الى البلدان المختلفة الخاضعة للحكم المغولي فأخذ هذا الصبي مكبّلاً الى اذربيجان ومنها الى مراغة وبعد ان قضى سنة في الأسر لعبت الصدفة دورها في حياته حيث التقى بالرجل الذي كان له الدور الاكبر في ارتقائه سلم المجد والخلود وانقاذه من الاسر والذل والعبودية الى حياة العلم والادب والفلسفة وهذا الرجل هو العالم والفيلسوف نصير الدين الطوسي الذي رأى في (ابن الفوطي) ملامح الذكاء وتوسّم فيه دلائل النبوغ والكفاءة، وكان الطوسي في ذلك الوقت يبحث عن الاكفّاء والاذكياء من الشباب ليلمّ بهم الشمل ويجدد مسيرة الاسلام بعد النكبة التي حلّت ببغداد وسعي الغزاة لمحق الاسلام، فعمل الطوسي على فكاك الغلام ثم ضمه الى حاشيته التي كانت تضم العلماء والكتّاب والمفكرين، وقد رصّهم الطوسي في صفوف قوية متماسكة تقاتل بالقلم والفكر لمقارعة أعداءالاسلام وكل من يكيد له شراً فكان لهذا الفتى مكانة واضحة بين هذه المجموعة العالمة العاملة.
*من الأسر الى رحاب العلم
بدأ ابن الفوطي رحلته مع العلم تلميذاً للطوسي ميداناً لكفاحه الطويل ثم وجه الطوسي تلميذه واستمرت هذه التلمذة ثلاث عشرة سنة في مدينة مراغة التي اختارها الطوسي ميداناً لكفاحه الطويل ثم وجه الطوسي تلميذه ابن الفوطي الى دراسة العلوم الرياضية والنظريات الفلسفية، فاتقن التلميذ اللغة الفارسية وأحاط بآدابها وكتب الشعر فيها كما ألمّ بلغة المغول وكان من أعظم انجازات الطوسي واهمها هي حرصه على انقاذ الكتب وجمعها في مكتبة كبرى وصونها من ايدي العابثين وبعد ان تم له ذلك وعهد بالاشراف عليها الى تلميذه (ابن الفوطي)، وكأنه كان يعده لذلك، بدوره كان (ابن الفوطي) ينتظر هذه الفرصة التي احدثت في حياته هذا التحول الكبير فأكبّ على مطالعة الكتب واجتمع لديه الفكر النيّر والذهن المتفتح والاستاذ الموجه والمناخ المؤاتي وكل هذه الاجواء كانت عاملاً قوياً ومؤثراً في صقل مواهبهه وتكوين شخصيته العلمية والادبية والفلسفية في تلك الاثناء كانت مراغة قد اصبحت مقراً لدولة تتبعّها خراسان وايران بأسرها والعراق والاناضول اي إنها كانت عاصمة المشرق الذي استولى عليه المغول.
بدأ (ابن الفوطي) عمله في المكتبة الكبرى بأن وضع لها نظاماَ دقيقاً يسير عليه المطالعون والدارسون والمشرفون ثم عكف على طلب العلم وشُغف بالتاريخ فانصرف اليه فبدأ معه بتسجيل تاريخ الدار التي آوته وانقذته وحمته وثقفته فسجّل كيفية انشاء دار الرصد واشار الى استقدام العلماء والمدرسين اليها وذكر عمل كل منهم واختصاصه ومؤلفاته مترجماً له ترجمة وافية والّف كتاباً خاصاً سماه (تذكرة الرصد) خصه باللذين وفدوا الى الدار او مكتبتها كما وصف بعض ما حوته المكتبة من نفائس الكتب وصفاً ذكر فيه تراجم المؤلفين وزياراتهم للمكتبة وبعض آثارهم، وقد حفظ من كل ذلك صوراًً للحياة السياسية والعلمية والاجتماعية والادبية ما كان لها ان تحفظ لولا ان سجلها بقلمه، لذا كان حريّا أن يوصف بـ (انه مؤرخ النهضة العلمية الكبيرة في مراغة).
انغمر(ابن الفوطي) في الثلاث عشرة سنة التي قضاها في مراغة في المجتمع وتغلغل بين الطبقات المتفاوتة واستزاد من الصداقات وكان حريصاً ان لا تفوته الاحداث دون ان يسجّلها بدقة وعناية فائقتين خاصة ان السنوات التي قضاها في مراغة قد شهدت الكثير من التحولات والتغييرات التي شكلت قمة نجاحه وعنفوان تألقه/ لكنه كان يتحرّق شوقاً الى بغداد التي فارقها غلاماً فثار به الحنين وعصفت به الاشواق الى ضفاف دجلة التي لم ينسه إياها نضوج الشباب وشيوع الذكر حتى سنحت له الفرصة للعودة الى العراق، ففي عام 678هـ ـ 1279م حكم العراق الصاحب علاء الدين الجويني صديقه في مراغة والذي استداعاه الى بغداد، وكان العمل الذي اتقنه ابن الفوطي في مراغة هو نفسه الذي عهد اليه به علاء الدين الجويني في بغداد وهو الاشراف على المكتبة المستنصرية وكانت آنذاك اعظم مكتبة عامة في العالم وملتقى رجال العلم والفكر والادب فعكف ابن الفوطي على عمله فيها بنفس الدقة والاتقان والتنظيم الذي عرف به في مكتبة مراغة واقبل على دراسة الفقه والحديث بتعمق حتى استحق بين المحدثين لقب (الحافظ).
*الشاهد على دمار الثقافة
بقي (ابن الفوطي) في عمله في الجامعة المستنصرية خمساًَ وعشرين سنة بدأت سنة 679هـ وانتهت سنة 704هـ كان التحول خلالها قد ازداد سرعة، وتحولت بغداد حينها الى مسرح دامٍ للصراع على السلطة والهيمنة، فقد صبّ (أرغون) حفيد هولاكو نقمته على آل الجويني لانهم نصروا عمه (تكودار) فبطش بهم واستأصلهم وقرّب من خصومهم كما عامل العراقيين عامة معاملة انتقام وقمع لميلهم الى آل الجويني، وقد شهد (ابن الفوطي) كل هذه الاحداث المريعة كما شهد مصارع آل الجويني الذين حكموا العراق اكثر من عشرين سنة حكماً حببهم الى العراقيين وأمالهم اليهم، وفي هذه الفترة شهد (ابن الفوطي) وفاة استاذه ومربيه نصير الدين الطوسي و وفاة اكثر العلماء الذين عاصروا الطوسي وتخرجوا على يديه وتعد هذه الفترة من اشرس الفترات المغولية وأعنفها وقد أرّخها (ابن الفوطي) فكتب كل ما شاهده وكتب للرجال و وصف الاحداث بعقل نير وفكر ثاقب و حزن عميق.
لم ينته مسلسل الاحداث التراجيدية في حياة (ابن الفوطي) الى هذا الحد وكأن الحياة أبت له ان يستقر على حال ابداً، فبعدما تخلّى عن عمله في المستنصرية عام 704 هـ رحل الى تبريز حيث أقام هناك ست سنوات ثم عاوده الحنين الى بغداد فرجع اليها يتردد الى هاتين المدينتين والسبب الذي كان يجذبه الى تبريز هو وجود صديقه القديم وزميله في التلمذة على يد نصير الدين الطوسي العالم والسياسي رشيد الدين الهمداني الذي عرفت تبريز في عصره ازهى عهودها العلمية والسياسية فلازمه ابن الفوطي وعاود سيرته في الاخذ بالعلماء الذين كانت تعج بهم تبريز آنذاك لكن ابن الفوطي كان على موعد مع فاجعة اخرى فقد حيكت الدسائس حول صديقه رشيد الدين الهمداني ولاحقته المؤامرات حتى قتله السلطان ابو سعيد في احداث طويلة لايتسع المجال لذكرها ورغم عظم هذه الفاجعة على قلب (ابن الفوطي) في قتل صديقه الاّ ان الفاجعة العظمى التي اصيب بها تمثّلت في ما اعقب هذه الاحداث وهو احراق مكتبة رشيد الدين والتي كانت تضم ما لا يقل عن خمسين الف مجلد من ضمنها معظم مؤلفات صاحبنا فضاعت بذلك تاريخ فترة من أدق فترات تاريخنا ولم يبق بعد هذه الكارثة سوى اجزاء معدودة مما كتب ابن (الفوطي). لقد كان وقع هذه المصيبة شديداً على (ابن الفوطي) فترك تبريز وعاد الى بغداد ومات بعد انقضاء خمس سنوات على حادثة تبريز عن احدى وثمانين سنة.
من أهم كتب ابن الفوطي التي ذهبت الى المحرقة هو كتاب (مجمع الآداب) ويقع في خمسين مجلداً يتألف منها الكتاب وقد ضاعت كلها لم ينج منها سوى جزئين فقط هما الرابع والخامس وقد وجد الاول في دار الكتب الظاهرية بدمشق وهو نسخة الاصل ومسودة المؤلف بخط يده و وجد الثاني في مكتبة جامعة لاهور في باكستان وهو نسخة المؤلف ايضاَ، وقد اعتمد المؤلف في هذا الكتاب في تارخيه للعصر عن طريق التاريخ لرجاله وقد ظل يعمل في الكتاب ويجدد فيه حتى قبيل وفاته بقليل اذ وردت فيه دراسات عن حوادث سنة 721 هـ وسنة 722هـ اي قبل وفاته بسنة واحدة وكان لهذين الجزئين اثراَ كبيراً في امتداد المؤرخين الذين تلوا عصر ابن الفوطي بأدق المعلومات التاريخية عن ذلك العصر وممن استفاد منه واخذ عنه الصفدي في (الوافي بالوافيات) والذهبي في (تاريخ الاسلام) والسيوطي في (بغية الوعاة) وابن عتبة الحسني في (عمدة الطالب) والجزري في (غاية النهاية) وابن كثير في (البداية والنهاية) وغيرهم.
اطلق على ابن الفوطي لقب (مؤرخ الآفاق) ويؤيد صاحب (الدرر الكامنة) هذا الرأي بقوله: (فعمل تاريخاً حافلاً جداً ثم اختصره في آخر سماه مجمع الآداب في خمسين مجلداً) كما ذكر من مؤلفات ابن الفوطي الاخرى كتاب (الدرر الناصعة في شعراء المئة السابعة) وموضوع الكتاب يعرف من اسمه وهذا يدلنا على ان ابن الفوطي لم يكن مؤرخ سياسة واحداث فحسب بل ان له باع في تاريخ الادب ايضاَ وقد اشار الذهبي الى هذا الباع الطويل بقوله (له الباع الطويل في ترصيع تزاحم الناس) وصفه في قول آخر (كان روضة معارف وبحر اخبار) اما من الدارسين المعاصرين الذين اهتموا بدراسة ابن الفوطي فنجد الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي اكتشف مخطوطة الجزء الرابع في دمشق فاستهواه ابن الفوطي وجعله يخصه بعدة بحوث ثم ختم ذلك بكتاب من جزئين سماه (مؤرخ العراق ابن الفوطي)، ويمكننا القول بعد ذلك بان (ابن الفوطي) تفرّد بمنهجه في التاريخ بأنه لم يهتم بتاريخ السلاطين وحدهم بل أرخ لكل طبقات الشعب فاستحق بجدارة لقب (مؤرخ الشعب).
|
|