الكعبة المشرفة والذكرى المؤلمة..
أكرمها الحسين بدمه ولوثها ابن الزبير بسلطانه
|
*علي جواد
بيت الله الحرام، ذلك البيت العتيق كما وصفه القرآن الكريم، الوادع بين مرتفعات مكّة المكرمة، والذي جعله الله تعالى حرماً آمناً للناس وللطيور والصيد أيضاً، يشهد فجأة ألسنة النيران تتجهه نحوه، لا لسبب إلا لتسوّى الأرض تحت أقدام شخص خالطت الزعامة لحمه ودمه، ولم يجد ضيراً من أن يدوس بأقدامه حتى حرمة بيت الله الحرام ليحقق طموحاته السياسية في الوصول الى السلطة جاعلاً من مكة المكرمة منطلقاً لهذه الدعوة.
إنه عبد الله بن الزبير ابن ذلك الصحابي المعروف والذي قال عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتطلع الى سيفه الخائب بعد معركة الجمل: (طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله)، لكن حسبنا العاقبة، أما ابنه، فلم يرث من أبيه حتى البداية على الأقل، فكانت بدايته كنهايته، وقد تخللت حياته المكائد والدسائس والتحالفات الكاذبة وتعبئة المسلمين في صف الباطل وبالنتيجة إراقة دماء الآلاف من المسلمين والتسبب في انتهاك الأعراض والأخطر من كل ذلك، اضافة نقطة سوداء في التاريخ الاسلامي، وتقديم نموذج آخر من النماذج السيئة والمخزية في ميدان السياسة والحكم.
لامجال لنا في هذا الحيّز لتتبع أخبار وأحوال ابن الزبير وسيرة حياته، سوى ما ارتبط بالحادث المفجع الذي ألمّ ببيت الله الحرام وهو حرقه وهدمه على يد الجيش الأموي في مثل هذه الأيام من شهر ربيع الأول سنة 63 للهجرة، وعندما نزل الإمام الحسين (عليه السلام) مكة المكرمة في موسم الحج لقيه ابن الزبير فعرض عليه البقاء لتشديد المعارضة على يزيد والحكم الأموي، فكان ردّه (عليه السلام)، قاطعاً وكاشفاً عن حقيقة الكوامن والدوافع، حيث قال: (سمعت جدي رسول الله يقول: سيقتل كبش في الكعبة يدنس حرمتها، ولا أحب أن أكون ذلك الكبش)، فتركه ومضى الى حيث العزّ والخلود الأبدي في كربلاء.
أما ابن الزبير فبقي في مكة يتحين الفرص لاستعادة ما كان يبحث عنه مع أبيه، ويفكّ تلك العقدة المرّة – السلطة- التي أبتلي بها وجعلته يحرض أباه الزبير على قتال أمير المؤمنين (عليه السلام) في (حرب الجمل)، ويبدو انه كان ينتظر ما تؤول اليه الأمور في كربلاء، فبعد الواقعة، عكف يندب قتلى الطف و يحرّض الناس على الأمويين ويشنّع بهم لما قاموا به من جرائم بحق أهل البيت (عليهم السلام)، فاجتمع اليه جماعة كثيرون في مكة، وطالبوه بأن يكون أميراً عليهم وينتقم من الحكام الأمويين، لكن المثير أن ابن الزبير كان يتظاهر بالزهد في السلطة والخلافة، وكان يدعو الى التروي، بل كان كثير اللجوء الى الكعبة والاعتكاف هناك، حتى سماه الناس بـ(العائذ بالبيت)، وهو ما زاد تعلّق الناس به والوثوق به أكثر.
ولما ظهر أمره وذاع صيته في الأمصار الاسلامية وبلغ ذلك يزيد في الشام، استشاط غضباً وعاهد الله على أن يوثقه بسلسلة من الحديد ويصنع به وبمن حوله ما صنعه بالحسين وأنصاره، وجاء هذا في كتابه الى واليه على مكة يأمره بذلك، وهذا الموقف اليزيدي والمتعجرف، كان خطأ آخر يرتكبه ويقربه الى الهاوية، حيث استغل ابن الزبير ذلك، بل كان يتلهف لمثل سقطات كهذه ليجعلها مبرراً ومسوغاً شرعياً للوثوب على السلطة والحكم، بل إن هذا الكتاب جاء في ظروف اجتماعية ونفسية خطيرة في الشام، حيث بان الزيف لجميع أهل الشام وعرفوا حقيقة موقف الامام الحسين من يزيد، فتصاعدت النقمة والاحتجاج في الاوساط العامة، حتى اضطر يزيد للتبرؤ من قتلة الامام الحسين للتخلص من تبعاتها لكن دون جدوى.
وكما استغل عبد الله بن الزبير استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) وما جرى على أهل البيت (عليهم السلام)، فانه استغل أيضاً وبشكل ماهر، جميع ردود الفعل الجماهيرية ضد الأمويين، فكان يجمع بانتهازيته جميع الأصوات النائحة والمواقف المعترضة، تحت شعار واحد هو (يا لثارات الحسين)! فقد وقف يراقب الأوضاع في الكوفة منذ الايام الأولى التي أعقبت الواقعة وحتى ظهور التوابين، كما كان يراقب الوضع في المدينة المنورة التي هاجت وماجت بالنياح والشجون على مصارع الكرام من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان الناس لا يبرحون يرون الإمام السجاد (عليه السلام) باكياً ونادباً ومبلغاً للقضية التي استشهد من أجلها أبيه الحسين (عليه السلام)، فكانت المدينة بشكل عام عبارة عن صفيح ساخن تحت الحكم الأموي.
ثارت ثائرة أهل المدينة ضد حكم يزيد بن معاوية بعد أن أعطوا البيعة لابن الزبير، إذ لم يجدوا غيره، كما تشير الى ذلك المصادر التاريخية، فقد كان العابد الناسك والعائذ بالبيت الحرام، وفي نفس الوقت غير الممتنع عن السلطة والحكم! فارسل يزيد جيشاً جراراً قدر عدده المؤرخون بعشرة آلاف فارس وخمسة عشر راجل، وقيل أكثر من ذلك، وأعطى القيادة لشخص يدعى (مسلم بن عقبة) وأوصاه بقتالهم والفتك بهم واباحة المدينة لمدة ثلاث أيام لجيشه إن هو استطاع أن يتغلب عليهم، كما أمره بغزو مكة وأخذ البيعة منهم على أنهم عبيد ليزيد!
وقعت الواقعة، وجرى ما جرى على المسلمين على مقربة من مرقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحسب المصادر التاريخية فقد قتل في تلك الواقعة المشينة – واقعة الحرّة- أكثر من ثمانين صحابياً، وسبعمائة من أولاد المهاجرين والأنصار، وأكثر من عشر آلاف من سائر الناس، وكانت المرأة أو الفتاة تلوذ بمحراب رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّها تأمن اعتداء جنود يزيد، لكنهم ما كانوا ليتورعوا عن انتهاك حرمة النبي بانتهاك أعراض المسلمين في مسجده وفي محرابه!
ولما انتهى (مسلم) الذي عُرف فيما بعد بمسرف بن عقبة، من أمر المدينة، توجه صوب مكة المكرمة لقتال ابن الزبير الذي كان كالعادة لائذاً بالكعبة المشرفة وحوله مناصريه، لكن في الطريق ساءت صحة (مسلم بن عقبة) فمات في الطريق، فولى يزيد الحصين بن نمير وأمر بمواصلة الطريق الى مكة، ولمّا أشرف ابن النمير على مكة واجهه ابن الزبير بالمقاومة واشتبك بمن معه مع الغزاة داخل وخارج الحرم المكي، فما كان من الجيش الأموي إلا أن نصب المنجنيق وألقى كُتل النيران على الكعبة المشرفة، وجاء في التاريخ: إن عبد الله بن عمير الليثي قاضي ابن الزبير وقف بين الفريقين ينادي أهل الشام: يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية، يأمن في الطير والصيد، فاتقوا الله في حرمته... لكن هذه النداءات المتأخرة لم تلق آذاناً صاغية، بل كانت النيران تنهال على الكعبة من المرتفعات الجبلية والفحاج المحيطة بالحرم، وبالنتيجة احترق بيت الله الحرام وتم هدمه بالكامل على يد الجيش الأموي، لكن أين ابن الزبير يا ترى ؟!!
كان ابن الزبير بعيداً عن النيران التي أصابت الكعبة، فقد سنحت فرصة جديدة نحو السلطة، وربما هي الأقدار، إذ فيما كان الجيش الأموي مشغولاً بمقاتلة الزبريين في مكة بلغهم موت يزيد في ظروف غامضة في الشام بمنطقة يُقال لها (حوارين)، فكان هذا التطور الهام، بمنزلة المخرج والمنقذ من عواقب هذه الحرب، فتفكك الجيش الأموي القائم بالأساس على الطاعة العمياء والقبضة الحديدية وليس على المبدأ والعقيدة، وكان الحال كما لو أنهم أنهوا مشهداً مسرحياً، وعاد كل شخص الى بيته! فبعد أن دبّ التخاذل والتشرذم في هذا الجيش، أمر الحصين بن نمير بالعودة الى الشام، ويذكر السيد هاشم معروف الحسني في كتابه (الانتفاضات الشيعية ص/428) إن ابن النمير دعا ابن الزبير لمرافقته وتعهد له بالبيعة فرفض ابن الزبير وبقي متمسكاً بمكة بعد أن تم هدم وإحراق الكعبة المشرفة بالكامل، لأنه يعلم أن طموحه السياسي لا يتحقق وسط الأمويين في الشام، إنما في الحجاز وبين أنصاره وأتباعه، وهو ما كان له فعلاً، فبعد موت يزيد واندلاع نار الخلاف في البلاط الأموي بين أحفاد أبي سفيان وبين المروانيين، فكانت الغلبة بالنهاية لمروان ابن الحكم، فدعى ابن الزبير الى نفسه خليفة للمسلمين، لكن هذه الدعوة كلفته إراقة سيول من الدماء في حروب يخلدها التاريخ كانت بينه وبين الجيش الأموي تارةً، وبينه وبين جيش المختار حليفه السابق تارةً أخرى!
أما النهاية فعند الكعبة المشرفة أيضاً، فقد أرسل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش قوامه عشرين ألف مقاتل الى مكة في عهد عبد الملك بن مروان سنة 73 للهجرة، فحاصر مكة وتعرض البيت الحرام مرة أخرى للانتهاك أمام أنظار ابن الزبير الذي رأى انه أمام الجدار الأخير، فقاتل حتى قتل عند البيت الحرام، بعد استباحته من قبل الجيش الأموي، وهناك جلس الحجاج يشاهد رأس ابن الزبير معلقاً على أستار الكعبة، وصدق حديث الإمام الحسين وحديث جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وماتت جميع أحلام ابن الزبير والزبيريين في السلطة والحكم، بعد أن دفع الكعبة ومئات الآلاف من المسلمين الثمن باهضاً.
|
|