من اغتال هؤلاء...؟ الجن أم الإنس؟!
|
* محمد الصفّار
من يسبر في غور التاريخ يجد ان معظم المؤرخين قد استمالتهم السلطة الى جانبها لاخفاء كثير من الحقائق او تزويرها فيما يتعلق بالمعارضين والثائرين، وقد راجت بضاعة هؤلاء الوضّاعين بشكل كبير في العهد الاموي الذي كان بأمس الحاجة الى من يعينهم على مواجهة الرسالة وقيم الدين الاسلامي وتعاليمه السمحاء، حتى اذا كان ذلك من خلال اختلاق روايات وحتى اساطير يأباها العاقل.
وبين ايدينا ثلاث شخصيات تاريخية لعبت دوراً في التاريخ الاسلامي وكانت نهايتها واحدة وهي الاغتيال على أيدي السلطة، ولكن بما ان هذه الشخصيات كانت مؤثرة في مجتمعها وذات مكانة اجتماعية بين قبائلها، فقد استدعى الامر أن يكون اغتيالها على أيدي الجن...!! نعم الجن، فهكذا تلعب السياسة دورها في تشويه الحقائق وتمرير افعال الظالمين على العقول الساذجة.
الشخصية الاولى: طالب بن أبي طالب
اكبر أولاد ابي طالب عم الرسول، والاخ الاكبر للإمام امير المؤمنين عليه السلام و اول مولود يولد بين هاشميين. ورغم ان التاريخ لم يذكر عنه سوى النزر اليسير وتحاشى الكثير من المؤرخين والمعنيين بالسير والخوض في سيرته، إلاّ أننا نجد ملامح تلك الشخصية من خلال هذا النزر وما وصف بيته الطاهر ونستشف من قول الإمام علي عليه السلام في حديثه عن ابيه على بعض هذه الملامح من خلال قوله عليه السلام: (رحم الله ابا طالب لو ولد الناس كلهم لولدوا شجعانا)، فالشجاعة إحدى مميزات هذه الشخصية، ولا يشك احد في ان بني هاشم هم أشجع العرب وطالب من لبتهم، هذا فضلاً عن المميّزات الاخرى والفضائل الجمة التي تحلّى بها هذا البيت الشريف.
كان طالب من ضمن المحصورين في شعب ابي طالب وكان ذا إثرة عند ابيه ويدلنا على ذلك قول ابي طالب عند ما جاء اليه النبي وعمه العباس بن عبد المطلب ليخففوا عنه: اتركا لي عقيلاً وطالباً واصنعا ما شئتما. كما كان ابو طالب يؤكد في وصيته لطالب على نصرة الرسول والذبّ عنه ومن ذلك قوله:
ابني طالب ان شيخك ناصحٌ
فيما يقول مسددٌ لك راتقُ
فاضرب بسيفك من أراد مساته
أبداً وانك للمنية ذائقُ
هذا رجائي فيك بعد منيتي
وانا عليك بكل رشد واثقُ
وهذا الشعر يدلنا على أهلية الموصى وايمانه بما جاء في الوصية وتجسيده له قولاً وفعلاً وهذا ما صرّح عنه طالب في شعره الذي اعلن فيه ايمانه المطلق بالرسول والاقرار برسالته يقول طالب في مدح الرسول:
اذا قيل من خير هذا الورى
قبيلاً واكرمهم أسرة
لقد حل مجد بني هاشم
مكان النعائم والنشرة
وخير بني هاشم احمد
رسول الإله على فترة
ولا نريد ان نشطّ عن الموضوع كثيراً في ذكرا تفاصيل حياة طالب ومواقفه إلاّ بقدر تعلّق هذه التفاصيل والمواقف باسباب اغتياله. ففي السنة الثانية للهجرة الشريفة تنتهي حياة هذه الشخصية بخاتمة غامضة زادها اختلاف المؤرخين فيها غموضاً ففي معركة بدر أكرهت قريش عدداً من بني هاشم ممن كانوا بمكة على الخروج معها وكان من ضمنهم طالب بن ابي طالب فقال رسول الله صلى الله عليه آله لاصحابه يومئذٍ: (اني قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرها لاحاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله). كما دعا الرسول صلى الله عليه وآله يومها ان ينجي الله المستضعفين من المؤمنين وقد جاهر طالب بموقفه من هذه الحرب ولم يخف ايمانه بالرسول على قريش واظهر ميله الى معسكر الرسول فكان بينه وبين بعض قريش محاورة وتتجلى ماهية هذه المحاورة في قول قريش لطالب (والله لقد عرفنا يا بني هاشم وان خرجتم معنا ان هواكم لمعَ محمد) اما البيتان اللذان قالهما طالب في تلك المعركة فهما لايدعان مجالاً للشك على إيمان طالب وولائه للرسول وكرهه الخروج مع قريش وهذا ن البيتان هما:
يارب اما خرجوا بطالب
في مقنب من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب
وقد تطيّرت قريش من هذين البيتين وتوجسوا الشر واستشعروا الهزيمة فقالوا: (ان هذا ليغلبنا فردوه). الى هنا ينتهي المؤرخون في سرد أحداث حياة طالب ليبدأ التخبط والاضطراب عندهم حول مصيره بعد معركة بدر. فمن المؤكد انه لم يقاتل فيقتل أو يؤسر في تلك المعركة ولم يكن لا من بين القتلى ولا بين الجرحى، إذن فأين ذهب...؟!
لنلقي هذا السؤال على المؤرخين ولنسمع اجوبتهم:
الجواب الاول: انه ـ اي طالب ـ رجع الى مكة مع من رجع ولكن ماذا بعد ذلك؟ يتوقف الحديث. فالتاريخ لايذكر عنه شيئاً بعد معركة بدر ومن المؤكد ان شخصية مثل طالب وقد عرضنا بعض خصائصها سيكون لها دور كبير في نشر الاسلام ورفد الدعوة بعد ان عرفنا ولاءه ومواقفه ولكن التاريخ يتوقف في حياته عند معركة بدر.
الجواب الثاني: وتأتي اكثر من الاولى غموضاً فتقول: بانه لم يرجع الى اهله أو فقد ولم يعرف له خبر...! وهذا ما لايعقل، لان شخصية طالب لم تكن شخصية انهزامية امام الاحداث مهما كانت صعوبتها وقد كان احد المحصورين في الشعب وهذا مايؤكد ثباته وعزمه أمام الصعوبات التي يواجهها.
الجواب الثالث: انه انتحر غرقا...! وهذا ايضا ما لاينطبق على شخصيته فلم يكن هناك مما يشين طالباً بعد قول النبي صلى الله عليه وآله في حقة وحق من أُخرجوا كرهاً وبعد موقفه المبدأي الولائي للرسول صلى الله عليه وآله ومعارضته في القول لقريش.
الجواب الرابع: وتأتي حول مصيره لتكشف عن كل هذه الملابسات والغموض. وتقول هذه الرواية: بأن الجن اختطفته!! ولم تحدد هذه الرواية ماهية الجن والصورة التي جاؤوا بها واسباب الاختطاف! ولو استنطقنا التاريخ سيُماط اللثام عن الحقائق، فالمختطفون او بالاحرى المغتالون هم من جن الانس. لنرجع الى ما بعد معركة بدر، ففي هذه المعركة قتل رؤوس الكفر وكان اغلبهم من بني أمية فاصبح ابو سفيان بعد هذه هذه الغزوة زعيم المشركين في مكة وسيدهم المطاع، وقد قتل ابنه حنظلة وصهره الوليد و والد زوجته عتبة والعديد من اقربائه واصحابه، فمن الطبيعي ان يدرك ثاره بقتل واحد من بني هاشم خاصة اذا كان من اقرباء الرسول او ابن عمه، واظن ان القارئ قد تبين اسباب الاغتيال خاصة ان طالباً قد عرف موقفه المعارض تجاه قريش وإيمانه بالرسول ثم ان الصراع بين بني أُمية وبني هاشم موغل في القدم وقد اشتدت ضروراته عند مجيء الاسلام فزاد حقد الامويين وحسدهم وبغضهم للهاشميين حتى قال امير المؤمنين عليه السلام عندما سئل عن هذا النزاع: (بنو أمية أغدر، وأمكر، وأنكر، ونحن أصبح، وأنصح، وأفصح).
الشخصية الثانية:سعد بن عبادة الانصاري
انه زعيم الخزرج، وكان نقيباً شهد العقبة وبدراً. وجيهاً في قومه وله سيادة و رئاسة ولا يسعنا الحديث عن تفاصيل حياته فهي متوفرة في كل كتب السير والتاريخ، وسنتناول فقط اسباب اغتياله فقد اثبت كل من تناول حياته من المؤرخين انه كان ممن تخلّف عن بيعة السقيفة وله كلام كثير اكد معارضته لها نقلته كتب التاريخ والسير، ثم خرج سعد مغاضباً من المدينة الى الشام فقتل بحوران سنة 15 هـ و وجد ميتاً في مغتسله وهنا يأتي دور المؤرخين لتبرئة ساحة الأنس من اغتياله ليحوّلوا التهمة الى ساحة الجن! ويعززّوا التهمة باعتراف الجن بقتله فرووا انه: لم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول:
قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
و رميناه بسهم فلم يخطئ فؤاده
ونسبوا هذين البيتين الى الجن. ويأتي بعض المؤرخين ليضع سبباً لقتله ليموّه عن السبب الاساس في قتله فيقول: انه كان يبول واقفا!! اسمع واعجب...! ونكتفي بهذا المقدار في الحديث عن هذه الشخصية وسبب اغتيالها ومن اراد التوسع فليراجع المصادر.
الشخصية الثالثة: عمرو بن الحمق الخزاعي
انه الصحابي الجليل ومن خلّص اصحاب الإمام امير المؤمنين عليه السلام وقد شهد معه حروبه كلها وبشره رسول الله بالجنة ودعا له.
كان عمرو من اشد المعارضين لسياسة معاوية والمنكرين لاعماله وجرائمه. ويروي له التاريخ في ذلك قصصاً كثيرة جداً ومواقف بطولية خالدة وقف فيها مدافعاً عن مبادئ الاسلام ومقارعة الانحراف الاموي. فلاحقته السلطات الاموية، فهرب من الكوفة حتى نزل قرب الموصل فقبض عليه وقتل رضوان الله عليه. وبما انه كان شخصية وجيهة ومن الصحابة الكبار فقد كفى الوضّاعون معاوية هياج الرأي العام ضده، فأشركوا الجن مع الانس ايضاً في قتله، وهذه المرة كانت الجن في صورة حية!! ويأتي الاضطراب في الروايات في قتله ليكشف عن التناقض في هذه القصة المخترعة. الرواية الاولى: تقول ان عمراً فرّ مع صاحب له يدعى رفاعة فأخذ عمرو يوصيه عندما احسّ بالطلب فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله اخبره ان الانس والجن تشترك في دمه، فقال رفاعة فما اتم حديثه حتى رأيت اعنة الخيل فودعته وواثبته حيّة فلسعته وادركوه فاحتزوا رأسه. اما الرواية الثانية فيكون فيها صاحب عمرو رجلاً آخر اسمه زاهر مكان رفاعة، فلما نزلا الوادي نهشت عمراً حية من جوف الليل فاصبح منتفخاً فاخبر زاهر نفس الحديث وزاد عليه – او بالاحرى زادت الرواية عليه- كلاماً لا يخفى على القارئ وهو ان الرواية تريد ان تقول ان قتل عمرو كان رحمة له وهو يعاني من السمّ وقد انتفخ جسده وهو يعاني الليل كله فاضافت على لسان عمرو: ولابد لي من ان اقتل فقد اصابتني بلية الجن بهذا الوادي. وفي هذا الحديث معنى غير مباشر وضعه مخترع الرواية يفيد ان هذه البلوى التي اصابت عمراً كانت عقوبة له جراء معارضته السلطة الاموية فكأنه يريد ان يعطيها شرعية.
لنرجع الى التناقض في هاتين الروايتين فالرواية الاولى تقول ان الحية واثبته وقد ادركته الخيل وهذا ما لا يمكن اما الثانية فتقول ان الحية لدغته في اليوم السابق لقتله ولو كان ذلك فانه ـ ان صحّت الرواية ـ لن يصمد طويلاً وقد بقي يومه وليلته يعاني من اثر السم ولكانوا تركوه يموت وحده وحمّلوا تبعة قتله الحية وحدها ولم يشاركوها في قتله، ثم ان هذه الرواية تؤكد على الروح الجاهلية عند الامويين وعقائدها الفاسدة والتي لم تفارقهم حتى بعد مجيء الاسلام فقد كانت العرب في الجاهلية تعتقد ان صورة الجن لم تكن محددة بهيئة واحدة فمن الجن على صورة حيوان شاذ كالغول والسعلاة، او غير شاذ ايضاً كالحية او الناقة فضلاً عن ادعائهم انها تمتلك قوى خارقة فجاء القرآن الكريم ليؤكد ان الحية ليست من جنس الجن وانما هي حيوان زاحف كما في قوله تعالى: "ومنهم من يمشي على بطنه".
من كل ما مرّ يتضح لنا أن تزوير الحقائق وتنزيه الحكام من الجريمة الظلم والطغيان وغيرها من مهنة وعاظ السلاطين واصحاب الاقلام المأجورة، لها امتداد تاريخي يتصل بالعهد الاموي الذي تجسدت فيه كل قيم الجاهلية والظلامية مقابل نور الاسلام الذي أضاء للانسان – ولايزال- طريق الحياة نحو التقدم والازدهار، ولذا نلاحظ سعي الحكام لتغييب المصلحين والثائرين عن الساحة الاجتماعية والسياسية، سواء مادياً بتصفيتهم جسدياً ام تشويه سمعتهم وقتلهم معنوياً.
|
|