قصة قصيرة
رائحة التفاح
|
عبد الأمير المجر
قالت، لما وقعت عيناها على اقفاص التفاح، مر زمن طويل يا (علي) تبدلت اشياء كثيرة في هذه الدنيا، لقد تغّيرت طباع الناس ورائحة الاشياء وحتى مذاق الاطعمة ..
لحظتها ودّ لوقال،: حتى انت ياامي، لكن زفرة اندفعت من صدره الذي يسند رأسها المعصوب بطيات فوطتها سابقت نظراته التائهة بين وجوه الباعة ومساطب الفاكهة في السوق حبست صوته فانحنى كأنه يعد خطوات قدميها المحمومتين ويعيد في صمت مشيتها المتئدة صدى سعالها الذي راحت سهامه تمزق صدرها ثم تنبت في صدره وراح يقلب وصية الطبيب حينما سلمه الوصفة قائلاً: (عليك بالفاكهة فالدم يكاد يجف في عروقها) توقف وشد رأسها الى صدره وقال: أمي ولم يزد عندها أحس أن يد السنين طوقته وانحدرت به بعيداً عن المكان... ولأنه لا يود مفارقتها تعلق بأذيال عباءتها يسابق خطوها بقدمين حافيتين وعيناه الصغيرتان تتجولان في بهارج السوق الصاخب، وعندما حاولت جذبه سبقها هو وجذب عباءتها ثم تسمّر قرب بائع التفاح فأخذت اصابعها تفتح (صرة الخردة) في أطراف فوطتها وعطر التفاح يفوح على وجهها فيما كانت كفاه الطريتان تطوقان التفاحة التي غاصت بها شفتاه منتشياً بعطاء أسواق المدن، تلك الجنائن المعلقة في فضاءات القرى، التي كان صغار القرويين يصنعون من عباءات امهاتهم أجنحة يطيرون بها في ليل الأكواخ النائية ليهبطوا بها صباحاً ممسكين بأذيالها مأخوذين بالدهشة من تلك العوالم النازفة بالحياة! قالت وكأنها تريد أن تنبّهه من غفوة مفاجئة داهمت طريقهم قريباً من السوق...
- ماذا قال لك الطبيب يا علي؟
ولأن الجفاف أنهكها ضاع صوتها الخابي بين أصوات الباعة فلم ينبهه من سكرته اللذيذة فظل يطوف بين أيامه الغافية على أجراف صدرها الذي كان يعرف مكامن ضعفه لما تنهش الأوجاع جسده الصغير فيقول: (أكره طعم الدواء ياأمي) فتستدرجه لمرارة الدواء بعطر التفاح الذي كثيراً ما كان يجعل أطراف فوطتها خفيفة، توقف وقد أوقن أنه ترك خلفه سنيناً، توقف بقامة طويلة أمام بائع التفاح ولما حاولت جذبه أدركت وهن يديها فأردفت وفي صوتها غصة حين رأت وجه طفولته يغيب عنها ويدير نظراته الحيرى بين وجهها ووجه البائع لكنها أردفت تقول:
- ماذا قال لك الطبيب يا علي؟
كان صوت البائع أعلى من صوتها فحاول أن يمد يده في جيبه الذي أفرغه في عيادة الطبيب ولأن البائع كفّ عن المناداة للحظات بدا صوتها واضحاً لما قالت:
- ألم أقل لك أن أشياء كثيرة في هذه الدنيا قد تغيرت، حتى يدك التي كانت طرية غدت مخشبة يا علي...
وبصعوبة حاول أن يعيد الحياة لأصابعه، وهي واقفة قربه تجاهد أوجاعها ثم أتكأت على صدره ولا إرادياً مدّ يديه الى أطراف فوطتها ليشمها وحين عبقت بأنفه رائحة التفاح القديم شد رأسها الى صدره وقال بصوت لم يسمعه أحد في السوق غيرها...
- أمي...
فيما أكتسحت المكان روائح غريبة فأكفهرت من حولهما الوجوه وراحا يلتفتان اشبه بالغريبين وحين أنحنى ليمسك بعباءتها كان صوت البائع يبتعد رويداً رويداً... ونظراته تقفو أطراف عباءتها على أرض السوق.
|
|