تثبيت الملائكة للمؤمنين
|
*كريم محمد
تعاهدت مجموعة من المؤمنين على المضي في دروب الجهاد حتى احقاق الحقوق وتثبيت العدالة، واستمروا في النضال والتضحية وبدأوا يقدمون القربان تلو القربان ومضت السنين والأيام وتأخر النصر الذي كانوا ينتظرونه، وتبددت الأحلام الوردية التي خلقوها في أذهانهم، وساد اليأس في قلوبهم، وتحول الأمل إلى كابوس، فتغيرت تبعاً لذلك تصرفاتهم، وانطلقت من مخيلتهم أفكاراً غريبة ، وأصبح همهم العيش بسلام وترتيب الأوضاع المعاشية، وقالوا لرسولهم "إذهب أنت وربك فقاتلا إنها ها هنا قاعدون"!
هذه القصة قد تصلح لأن تكون مثلاً لحال كثير من المجموعات الجهادية أو السياسية التي تبدأ باطروحة مثالية لكنها لا تلبث حتى ينفرط عقدها بعد حين نتيجة اليأس أو بشكل أصح (الضعف).
فالإنسان كائن ضعيف بذاته، لكنه قوي إذا تمكن من تنمية القدرات الإنسانية التي لديه، حتى يصبح مغير التاريخ أو حتى مغير وجه الكون، وقد قرأنا على صفحات التاريخ أشخاصاً صنعوا التاريخ وبنوا حضارة أمتهم.
الفرق بين هذا الإنسان وذاك هو أن القوي يستمر في العمل والنشاط، أما الضعيف فهو يسقط في وسط الطريق ويميل نحو نقاط الضعف في شخصيته، فالأول ثابت ومستقيم على الطريق أما الثاني هو الذي يتحول بملء ارادته عن الصراط السوي.
الثبات على الطريق هي حقيقة لاتقبل الشك وأنها تجري في الآخرين كما جرت على الأولين، وقد ذكرها القرآن الكريم في مواضع عدة، ولولا أنه حقيقة إنسانية ماكانت تستحق كل هذا الإهتمام من رب العزة، حيث نجد أن الله سبحانه وتعالى نفسه يتدخل ويأمر الملائكة بأن يثبتوا المؤمنين.
هذا يعني أن المؤمنين أيضاً يمكن أن تزل أقدامهم وينحرفوا عن الصراط ويبتعدوا عن طريق الإيمان، لكن الله العزيز يرحمهم ويبعث لهم من يثبت أقدامهم ويفتح لهم آفاقاً من المعرفة وخطوات من السلوك حتى يثبتوا أنفسهم على طريق الهداية ولايهربوا في المعركة ويأمرهم بذلك، جاء في الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ" (الأنفال،45)، فقد كانت أعداد المشركين تفوق أعداد المسلمين أضعاف مضاعفة، إلا إن المؤمنين كانوا يثبتون ولايهتزون أمام تلك الأعداد الكبيرة لسببين الأول: إيمانهم وتفانيهم في الله، والسبب الثاني: كانوا بإرادة الله ينظرون إلى الأعداء بعين القلة، "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ" (الأنفال،44).
إن تدخل الله سبحانه وتعالى في المعركة وتثبيته للمؤمنين من خلال إظهار الأعداء بعدد قليل كان له أكبر الأثر في تحقيق النصر عليهم لأن الله عزوجل يقول في آية سابقة: "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (الأنفال،43)، ولولا تدخل الله عزوجل لأصابهم الفشل الذريع ولما تمكنوا أن يصمدوا بوجه الأعداء، ولكن الله تعالى أراد لهم النصر ففعل لهم ما فعل، وإذا أراد الله عزوجل بقوم خيراً أنزل عليهم ما أنزل من التثبيت حتى يحققوا النصر على الأعداء.
ولابد أن نعرف أن عملية التثبيت غير مختصة بالمؤمنين فقط بل تشمل أيضاً حتى الأنبياء فقد جاء في القرآن الكريم "وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً" (الإسراء،74)، وفي آية أخرى "وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ" (هود،120)، وفي أية أخرى "كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا" (الفرقان،32).
ويبدو بوضوح أنه من جملة الأشياء التي يثبّت الله بها الأنبياء والمؤمنين هو القرآن الكريم، فهو فضلاً عن ما فيه من الإشارات الغيبية والمعنوية التي تغمر الإنسان وتخضعه إلى سر قوتها وجبروتها، فان مفهوم التثبيت يحتوي على معاني ثرية ومتينة تفتح للإنسان آفاقاً رحبة من العلوم والمعارف التي تقوي يقين الإنسان وتثبته على طريق الهداية مهما واجه من صعاب ومحن.
ولكن لمن يريد الثبات هنالك شرطاً يجب توفره قبل تحقيقه ، وهو تحقق التوبة لدى الإنسان المؤمن والغفران من جانب رب العزة وقد ورد في القرآن الكريم "ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا" (آل عمران،147) فمن دون قبول الله لتوبة الإنسان فإنه عزوجل لن يثبت قدمه.
وهكذا تنتج لدينا صفة مهمة وهي من صفات الأفراد المستقيمين، بأن كلامهم يكون صادقاً على طول التاريخ، لابمعنى أنهم يكونون صادقي الحديث، بل أن تكون مواقفهم وتوقعاتهم للمستقبل صادقة أيضاً، لأن الله سبحانه ثبتهم بالقول الثابت فجاءت أحاديثهم صادقة حتى وإن مضى عليها عشرات السنين، وإذا أردتم أن تعرفوا الشخص القيادي هل انه مثبّت من قبل الله بالقول الثابت، فاسمعوا إلى أحاديثه قبل أعوام فإذا كانت أحاديثه صادقة فهو مثبت بالقول الثابت وإن لم تكن كذلك، فاعرفوا انه غير مثبت بالقول الثابت وقد قال رب العزة والجلال: "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" (إبراهيم،27).
1 / الكافي: ج2، ص 16
2 / من هدى القرآن، ج4، ص 479
3 / نفسه، ج5 ـ ص 199
4 / نفسه، ج11 ـ ص 346
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------
|
|