على ضفاف ذكرى وليد الكعبة..
المعارضة والحكم يطرقان باب علي (ع)
|
*علي جواد
ما أن يخطر اسم عليٌ عليه السلام في الذهن أو يأتي على لسان أحد حتى يبدأ الاستلهام بسرعة البرق بل أسرع، فاهل التقوى والتديّن يعدونه إمامهم، وأهل الاخلاق يعدونه قدوتهم ومثالهم الاعلى، واهل السياسة يعدونه معلمهم، والنساء يعدونه حاميهم و الفقراء المعدمون في ضواحي المدن يعدونه مخلصهم، والايتام يعدونه كافلهم، وحتى المذنبون العاصون لله يعدونه منقذهم. ويبدو لي؛ كلما مضى زمان على البشرية، كلما زاد واشتدت حاجتها الى الامام علي بن أبي طالب عليه السلام. وها نحن في العراق وفي سائر البلاد الاسلامية ناهيك عن سكان المعمورة، نعيش أوضاعاً غير طبيعية في الاصعدة كافة، بل هي خلاف للفطرة الطيبة والنقية التي أودعها الله في نفوسنا. وبما ان الشأن السياسي والعلاقة بين الحاكم والشعب هي التي تشغل بال الغالبية العظمى من الناس سواءً في العراق مو سائر البلاد، آثرنا تسليط الضوء على نقطة واحدة من سيرة إمامنا وملهمنا أمير المؤمنين عليه السلام حددها بكل دقة وحكمة وكياسة لتكون المنطقة الرديفة لاهل الحكم، فيكون في هذه المنطقة (أهل المعارضة)، كما تكون هنالك منطقة (لأهل الحكم)، فتكون المعارضة عضيداً للحكم في مراقبتها وتسديدها ثم تقويتها وفي نفس الوقت تكون مهيئة لممارسة الحكم حالما تهيئت الظروف النفسية والفكرية عند الناس ومن جانبها قدمت المشروع الافضل والبديل الاحسن للناس فتفوز بارائهم في الانتخابات.
هذه الصورة الجميلة التي يتداولها الساسة اليوم ويلاحظها الناس، بحاجة الى اجابة لسؤال كبير؛ ما هو السبيل الى وجود هكذا معارضة تتصرف وكأنها هي التي تحكم وليس اهل الحكم الفعليين؟ تشعر دائماً بالمسؤولية والامانة إزاء ما يجري. ثم يجب ان نتذكر دائماً اننا وبفضل أمير المؤمنين عليه السلام لنا الريادة والسبق في فكرة المعارضة بسابقة تعود الى حوالي اربعة عشر قرناً.
يؤسس للمعارضة السلمية
ان الطريقة التي تصرف بها الامام علي عليه السلام بعد رحيل النبي الأكرم عن دار الدنيا، تدلنا الى سبيل الاخلاق الذي تجسّد كله في شخصيته موقفاً وكلاماً وصمتاً، ولمن يستغرب الطرح والفكرة ويستبعد نجاح الاخلاق في مسايرة السياسة، عليه ان يراجع كتب السير والتاريخ والحديث وينظر كيف ان هذه الاخلاق العلوية أنقذت حياة عمر بن الخطاب وأدامت له فترة أطول في الحكم؟ وكم نصح وأرشد وحل العقد بما ينقذ ماء وجه الحكومة ويحفظ صورة الدولة الاسلامية، مع علمه بانها لم تتشكل باتباع الحق وبما أوصى به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في أواخر ايامه، ومع علم الذين حكموا قبله بانهم ليسوا بافضل منه بل هو الأحق، لكنهم كانوا يحضونه بمنزلة كبيرة وعظيمة، ومذاك سنّ الامام عليه السلام سنّة الاخلاق في المعارضة السياسية التي امتدت حتى ايام خلافته وحكمه. يقول آية الله السيد هادي المدرسي في كتابه: (أخلاقيات أميرالمؤمنين): (ان الاخلاق هي التي تعطي للمعارضة مشروعيتها الحقيقية، وهي التي تميزها عن الاوضاع القائمة.. وأي تجاهل للاخلاق يسلبها مشروعيتها ومن ثم يبعدها عن الناس).
ان المشكلة التي تواجهنا دائماً تصورنا بان المعارضة دائماً على حق، وكل ما تقوله وتقوم به هو صحيح يفصح ويعبر عن ارادة الناس، وان مؤسسات الحكم من سلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية وجيش وأمن يشوبها الخلل والزلل على طول الخط، ومن اجل ذلك نلاحظ لهاث اعلام المعارضة وهو يتابع ويحصي الزلات والعثرات ولا شأن له بالمنجزات والايجابيات، بل ينتظر الاسقاطات والهزائم. هذا النهج هو الذي يبعد المعارضة عن الاخلاق ويدخلها في دهليز التنافس المحموم على السلطة فتشتعل الصراعات الجانبية ويكون الشعب دائماً هو الضحية. وللسيد المدرسي (حفظه الله) كلمة رائعة وحكيمة في هذا المجال: (قد تكون المعارضة لباطل لا يشوبه حق، وقد تكون لحق يشوبه باطل). ففي الحالة الاولى تكون ضد الاحتلال الاجنبي او النظام الديكتاتوري الظالم، فالمعارضة تكون شاملة وبلا حدود، إلا حدود المثل والقيم، لأن الطرف الاخر يريد القضاء عليك تماماً. اما في الحالة الثانية وهي الاقرب لواقعنا فتكون لحكم قادم من انتخابات عامة لكن يشوبه بعض الباطل والانحراف ذات اليمين وذات اليسار فتكون بحاجة الى التقويم والتسديد، لا ان تتأثر المعارضة سلبياً بسياسة النظام الحاكم وتكرر اخطاءه ومساؤئه فتخسر اخلاقها وتخسر جماهيرها ايضاً.
أما الامام علي عليه السلام فقد كان صاحب الحق بالخلافة والحكم بتصريح و وصية النبي الأكرم وأمام جموع المسلمين في يوم الغدير وفي مناسبات عديدة، إلا انه آثر دور المعارضة على الحكم في تلك الظروف الاستثنائية من التاريخ الاسلامي حيث كانت النفوس والعقول غير مهيئة لتقبل حكم الامام عليه السلام بعد رحيل الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، لكن في نفس الوقت حافظ الامام على شخصيته وبقي نفس تلك الشخصية التي كان يراها المسلمون في حياة النبي الأكرم بل وازداد حرصاً واهتماماً بامورهم ومستقبل الدولة الاسلامية، ومن خلال ذلك كان يقدم المشورة اللازمة لأبي بكر ومن بعده عمر وايضاً عثمان في المسائل التي تهم مصير الامة الاسلامية. الى جانب ذلك كان يرى يصرح جهاراً بانه الأحق بالخلافة وانه مظلوم، لكن كل ذلك لم يخرجه طيلة الخمسة والعشرين عاماً من اعتزاله السياسة، عن جادة الحق ولا ان يخوض الباطل ولا يتخلّى عن القيم الاخلاقية، فجاءت معارضته شريفة ناصعة كالماء الزلال الذي يحيي الارض بعد موتها.
والمثير ان عمر بن الخطاب كان اكثر المستفيدين من نصائح الامام عليه السلام حتى قال قولته المشهورة (لولا علي لهلك عمر). ومما جاء في التاريخ من تلكم النصائح العظيمة، استشارته لعمر حينما اراد الخروج الى قتال الروم، واقنعه بان في الجيوش التي أعدها من قبله أبو بكر كفاية، وقد حقق قوادها نجاحاً كبيراً، وكل ما يحتاجه الجيش هو المدد، بينما كان عمر يرى ان مسيره للحرب وقيادة الجيش تكون لصالح المسلمين لتقوية عزيمتهم ومعنوياتهم، فقال له الامام عليه السلام: (انك متى تسر الى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، ولاتكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون اليه، فابعث اليهم رجلاً مجرباً واحفز معه اهل البلاد النصيحة، فان أظهره الله فذاك ما تحب، وان تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين). فولّى عمر أبا عبيدة على الجيش، وفتحت جيوش المسلمين ارض العراق والشام كلها ومصر وهرب هرقل الى القسطنطينية. ومرة اخرى اراد عمر الخروج بنفسه الى الحرب ضد الفرس، فاقنعه الامام بعدم الذهاب وكان محور نصيحته الحفاظ على حياة عمر، مع ان رؤية الامام عليه السلام أبعد من ذلك، وهي مصلحة الامة والحفاظ على تماسكها وقوتها امام التحديات آنذاك، ومما جاء في كلام الامام لعمر: (... ومكان القيّم بالامر مكان النظام – السلك- من الخرز، يجمعه ويضمه، فاذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجمعه بحذافيره أبداً).
المسالمة مع المعارضة المسلحة
هذا ما كان من سياسة أمير المؤمنين في عهد الحكام الثلاثة، فقد عاملهم بالنصيحة والارشاد، وعارضهم لله ولمصلحة الامة ومصير الدولة الاسلامية لا لشيء آخر ابداً. هذا النهج استمر مع تسلمه مقاليد الامور وبضغوط من جموع المسلمين التي تدفقت عليه بعد مقتل عثمان، فبالقدر الذي كان شديداً في حقوق الناس وفي احكام الله تعالى، فانه كان ليّناً مع الرأي الآخر، ولا ننسى اننا نراجع مرحلة هي الاكثر حساسية وخطورة في أية أمة وحضارة في التاريخ البشري، فمرحلة التأسيس تكون دائماً مشوبة بالحذر والقلق من كل شيء. ولا يمكن الحصول على شيء بسهولة. بينما الامام وهو قد تسلّم الخلافة وبعد خمسة وعشرين عاماً من الاستبعاد، نرى انه يعبر لنا وللتاريخ والاجيال كيف يكون الزهد في الحكم طريقاً لتثبيت دعائمه وتقوية العلاقة بينه وبين الناس، فقد فسح المجال للمعارضين ليبدوا آرائهم وحتى معارضته له شخصياً، وهو ما كانوا هم انفسهم لايحلمون به في حكم الثلاثة الماضين. وقد ذهبوا الى ابعد حد في التجرؤ والتطاول أن كفروا الامام عليه السلام. ومما يذكر في هذا المجال ان جماعة من المسلمين في الكوفة خرجوا في احدى ليالي شهر رمضان يريدون أداء الصلاة المستحبة جماعة والمعروفة بـ (صلاة التراويح)، وهو ما كان ينهى عنها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وعندما همّوا بذلك صادفهم الامام الحسن عليه السلام فنهاهم عن ذلك التزاماً بالحكم الشرعي الذي سنّه الرسول الاكرم، فما كان من هؤلاء إلا ان صرخوا (وا عمراه ....)!! فسمع أمير المؤمنين الضجة فسأل عنها فقيل له ما جرى، فاجاب دون تردد: ليصلوا كما يريدون!
وقضية (الخوارج) أشهر من ان تقال، فقد شنوا الحرب عليه وشقوا عصا الطاعة وأوجدوا فتنة كريهة بين المسلمين ما نزال نرى آثارها حتى اليوم، وبعد انتهاء المعركة والغلبة عليهم في منطقة النهروان، فانه لم ينظر الى الهاربين والناجين من المعركة نظرة اشمئزاز او ريبة كونهم أعداء بالمعنى الدارج اليوم، بل انه لم يقطع عنهم العطاء من بيت المال، وعنهم قال عليه السلام عندما كثر الحديث بين اصحابه: (هؤلاء طلبوا الحق فاخطأوه). ولم يجيز وصف ما تركوه بعد المعركة غنيمة يأخذها اصحابه، كذلك الحال مع اصحاب الجمل في البصرة.
هذا النهج الاخلاقي هو الذي أثار خوف طلاب السلطة والحكم، فكانوا دائماً يحاولون الايقاع به وتشويه صورته امام المسلمين، وهم في ذلك واهمون فقد سخر منهم التاريخ بعد ان مسكوا الغربال ليمنعوا عن عيونهم أشعة الشمس الساطعة. ففي معارضة الامام البناءة والصادقة لن يتمكن الحاكم من التصرف كيفما يشاء في الاموال والصلاحيات، لأن دائماً ثمة عينٌ لا تنام تراقبه ولا تشوبها شائبة، وهو لا سبيل له من ابعادها. أما في حالة الحكم فانه انتهج سياسة استيعاب المعارضة وامتصاصها وغلق ابواب الامة الاسلامية دونها أمام الاغيار والاجانب، وهذا ايضاً لن يفي باغراض المعاندين وطلاب السلطة الذين يجدون انفسهم وقد تم لجم افواههم وقيدوا بالتعاليم والقيم وأي حركة شاذة تفضحهم امام الناس، وهذا ما نلاحظه جليّاً في النهج الذي اتبعه الامويون الذين بنوا معقلهم في الشام منذ فترة حكم عمر، فقد حاولوا عبثاً تلويث اسم الامام بدم عثمان ليسهل لهم تعبئة الشارع العام ضده في حال توليه الخلافة، وفي مرحلة لاحقة ناصروا وأيدوا نفاقاً ودجلاً الحركات المعارضة التي خرجت على الامام بل لا يستبعد دعمهم لطائفة الخوارج ليكونوا شوكة في طرق الامام عليه السلام، وفعلاً كانوا كذلك بل تحولوا الى شوكة مسمومة أدت الى ان يلتحق الامام علي بن ابي طالب عليه السلام بأخيه رسول الله ويفوز بالجائزة العظمى. والحقيقة اننا ما نزال نعاني ومنذ سنة اربعين للهجرة وحتى اليوم آثار غياب أمير المؤمنين والى حدٍ كبير من ثقافتنا السياسية وتوجهاتنا الفكرية. وهذا ما ندعو الى اصلاحه قبل ان نفكر بان نكون معارضين او حاكمين.
|
|