ما زالت آثار الجريمة ماثلة
البقيع المهدّم. . شاهد على التخلّف ومعاداة الاسلام
|
*إعداد / هاشم الموسوي
يمكن اعتبار التدمير المتعمد للآثار الاسلامية، تدميرا للتراث الاسلامي ككل، فالتراث الاسلامي ليس مجرد تلك المواقع الاثرية، ولا المباني التاريخية التي شكلت احد الادلة التاريخية والانسانية على وجود ونهضة الحضارة الاسلامية، بل ان التراث يشمل ايضا النصوص المقدسة وكل ما تم تسجيله من احاديث وسنن الرسول الخاتم وآله الاطهار، فكل ما جرى من منع لتسجيل وتدوين الحديث النبوي بعد رحيل الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله، وتحريف النصوص ثم جمع وحرق الاحاديث، وما دون من السنن بعد وفاته صلوات الله عليه وآله، وخاصة في عهد الخلفاء الثلاثة الاوائل لهو ايضا من الجرائم المتعمدة لهدم وتضييع التراث الاسلامي، فابعاد اهل البيت عن مواقعهم وتشريدهم ومطاردة اصحابهم و شيعتهم واغتيالهم وتجريف قبر الامام الحسين في عصر المتوكل العباسي وغيرها من الاعمال العدوانية كلها في عداد تدمير التراث الاسلامي، أليس غريبا ان نجد أمة تدعي اتباعها للرسول الخاتم ثم تدمر وتبيد تراثه الشريف الذي هو عنوان للتراث والتاريخ الحضاري الاسلامي ككل؟
بقيع الغرقد.. اللغة والتاريخ:
البقيع لغة: الموضع من الارض فيه أروم الشجر أي اصول وجذور الاشجار وبه سمي بقيع الغرقد بالمدينة المنورة. وفي كتاب (العين) الغرقد: ضرب من الشجر - نوع من الاشجار- وايضا: هوشجر له شوك كان ينبت هناك فذهب وبقي الاسم ملازما للموضع، وفي (مجمع البحرين) البقيع من الارض: المكان المتسع، وقيل: لا يسمى بقيعا إلا وبه شجر او اصولها، ومنه بقيع الغرقد. ومنذ ان دفن رسول الله صلوات الله عليه وآله الصحابي الجليل عثمان بن مظعون وعلم مكانه بحجرين عند موضع رأسه و قدميه ودعا له، اصبح بقيع الغرقد مدفنا لاهل المدينة المنورة وموضعا للتبرك وخاصة بعد ان دفن فيه ابراهيم ابن النبي الاكرم صلوات الله عليه وآله الاطهار، والبقيع صار مقبرة تتصف بالقدسية والخصوصية فدفن فيها زوجات الرسول (ماعدا السيدة خديجة) وعماته واعمامه ثم الكثير من آله الاطهار عليهم السلام وخاصة ان اربعة من الائمة المعصومين قد دفنوا هناك وهم: الامام الحسن المجتبى استشهد (50 للهجرة). والامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام اسشهد (94 للهجرة). والامام محمد بن علي الباقر اسشهد (114 للهجرة). والامام جعفر بن محمد الصادق استشهد (148 للهجرة).
و بمرور الزمن اكتسب بقيع الغرقد اهمية تاريخية ودينية ليس فقط لاعتباره مقبرة دفن فيها جلّ متقدمي المسلمين من أهل بيت النبوة الاطهار وممن عاصروا الرسول الاعظم وصاحبوه وخاصة نساءه واعمامه وعماته رضوان الله عليهم، بل لانه يمثل تجسيدا واقعيا لواحدة من اهم مراحل التاريخ النبوي والاسلامي على السواء، ومن هنا نجد اهمية الحفاظ علية وصيانته من العبث والتدمير، ولخصوصية بقيع الغرقد ولعظمة من دفن فيه قام المسلمون في كل العصور السابقة للحركة الوهابية السلفية بالاهتمام الكبير بالبقيع وببناء القباب على القبور الشهيرة تعظيما واكراما لهم من امثال قبور الائمة الاربعة السابق ذكرهم الذين اشتهروا بائمة البقيع، والاهتمام بقبور زوجات النبي وعماته واعمامه وببقية آله واصحابة رضوان الله عليهم فبنيت القباب ووجدت الطرق للزيارات التي اخذت تتعاظم بمرور الزمن، كما اوقفت الاوقاف الخاصة للصرف على المراقد المقدسة في البقيع تأكيدا في الاهتمام بالارث النبوي والاسلامي، باعتبارهما ارثا حضاريا يخص البشرية جمعاء وليس المسلمين فحسب، ولكرامة البقيع على المسلمين عرف بجنة البقيع وربما هذه التسمية جاءت من حديث الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله الاطهار وهو يقول: (أن بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وقد استمر الاهتمام بالبقيع حتى قامت الحركة الوهابية بتهديم التراث الاسلامي في العشرينات من القرن الماضي
الهدم تاريخياً
منذ ظهور الحركة الوهابية سنة 1143هجرية - 1722 ميلادية على يد مؤسسها محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي الحنبلي قامت هذه الحركة التي تتبع عقيدة سلفية منحطة بمهاجمة كل المناطق الاسلامية المجاورة لها في شبه الجزيرة العربية، وخارجها ومن اشهر ما قامت به من اعمال شائنة يندى لها جبين التاريخ الاسلامي ما يلي:
1- في 18/ ذي الحجة/ 1216 المصادف 22 نيسان 1801م هاجم الوهابيون بقيادة ملكهم سعود بن عبد العزيز مدينة كربلاء المقدسة فنهبوا القبر الشريف واضرموا به النيران وقتلوا كل من كان فيه.
2- بعد سنتين وفي سنة 1218 – 1803م هاجموا النجف الاشرف ومرقد امير المؤمنين عليه السلام ولكن دفاع اهل النجف عن مدينتهم احبط الهجوم وردهم خائبين وبالكاد سلمت القبة الشريفة من الاذى.
3- وفي سنة 1218 – 1806م هاجموا كربلاء مرة ثانية لكن اهل كربلاء كانوا قد استعدوا لهم فاحبطوا هجومهم الاجرامي.
4- في بدايات القرن العشرين وبالتحديد في عام 1923 بدات الحركة الوهابية بتنفيذ احد اكثر مخططاتها اجرامية وانحطاطا، الا وهوتدمير وتجريف القبور والمراقد المقدسة في منطقة بقيع الغرقد، فكانت البداية بارسال شراذمهم لتنفيذ فتاوى فاسدة تدعو لهدم كل المباني والمنشئآت التي بنيت على القبور الشريفة، فأرادوا البدء بقبر الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله وكادوا ان يهدموا القبر الشريف وقبته لولا كثرة دعاوى المسلمين في الهند وايران والعراق وارسال الرسائل والوفود لمنعهم من ارتكاب جريمة تاريخية واسلامية لم تعرف لها الانسانية مثيلا، فكيف يمكن لامة ان تهدم تراث نبيها؟! وبعد ان عرف العالم الاسلامي بالنوايا الخبيثة والفتاوى الفاسدة للحركة الوهابية، وبعد كل هذه المحاولات الجادة تمكن المسلمون من الوقوف بوجه الجريمة الوهابية، غير ان الحركة الوهابية وبعد فشلها في محاولة هدم قبر الرسول الخاتم نتيجة للضغط الاسلامي، وجهت هذه الحركة شراذمها لهدم القبور والقباب التي بنيت عليها والمباني والمنشئآت التي كانت تمثل جنة البقيع، وبتهديم وتجريف مستمر تمت تسوية مقبرة البقيع مع الارض، وازيلت كل معالمها التاريخية، وامعانا في الجرم تمت ازالة الحدود القديمة لجنة البقيع والحق بها ما كان خارجا عنها استهانة بالتاريخ الاسلامي، وتحقيقا لدعاوى وافكار فاسدة، فكما تم في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان من الحاق وتقريب كل من ابعده الرسول الاعظم صلوات الله عليه وآله، جاء هؤلاء ليكشفوا عن وضاعة الفكر الذي تبنوه وارادوا فرضه على الاخرين بالقوة، وقبل ذلك وفي خطة سرية لم يكتشفها الاعلام الا بعد فوات الاوان تم تدمير الكثير من المباني التاريخية في احياء مكة القديمة كما ذكرنا سابقا، بل وان معالم مكة المكرمة تتغير يوميا بحجة التوسعة وانشاء بعض المرافق والمنشئآت هنا وهناك، ففي الوقت الذي تهتم به الانسانية في تكريم عظمائها ومشاهيرها فتحول بيوتهم ومناطق سكناهم الى متاحف ومزارات تعبيرا عن الاعتراف بفضل هؤلاء في اغناء الفكر الانساني من النواحي العلمية والفكرية والادبية، و كم من شاعر مغمور او رسام فاشل صار بيته متحفا يحج اليه السواح من كل مكان، بينما نجد الحركة الوهابية السلفية تتبنى العكس وبدلا من ان تفتخر بتواجدها على ارض الرسالة الخاتمة نراها تجهد في تقويض وهدم كل ما له علاقة بالرسالة وصاحبها.
كيف نحمي تراثنا ؟
إن السكوت عن الجرائم الوهابية بحق التراث الاسلامي سيعني مزيدا من الامعان في تهديم ما بقي منه، فالعقائد الفاسدة تنتشر كجراثيم تنخر في الفكر الاسلامي، والتهديم المتعمد و المتكرر للآثار الاسلامية في الجزيرة العربية يشكل خطرا مستمرا على التراث الاسلامي وهذا يعني اننا لن نجد بعد بضعة سنوات اثرا يخص الرسول وآله الاطهار بل لن نجد اثرا اسلاميا هناك، ان حماية التراث عمل لا يقوم به شخص بمفرده، وهو لا يمكن ان يكون نتاج لجهد فردي، بل انه مسؤولية جماعية يشكل الوعي احد اهم مقوماتها، وقد قُدمت العديد من الطلبات الى منظمة اليونسكو للثقافة باعتبار الاثار الاسلامية في الجزيرة العربية وفي العراق ومصر والشام وايران جزءاً من الارث الانساني الذي يجب حمايتة والحفاظ عليه ضمن قوانين دولية تمنع هدمه وازالته اوالتصرف فيه خارج ما ينص عليه قانون، كما ان منظمة حماية التراث وهي منظمة دولية قامت بالعمل نفسه وقد واجهت المنظمة معارضة شديدة من قبل الحكومة السعودية، التي تدعي باطلا ان تهديم الاثارهو عمل شرعي نصت عليه العقيدة الاسلامية من وجهة نظر الفكر الوهابي السلفي، وهنا يحق لنا التساؤل: كيف هرع عدد من رجال الفكر والدين وكان منهم الشيخ القرضاوي الى افغانستان لمطالبة حكومة طالبان بعدم تدمير تمثالي بوذا الشهيرين في حين انهم يغضون الطرف عن تدمير التراث الاسلامي وخاصة مقبرة البقيع، فايهما اكثر تماسا بالحضارة الاسلامية؟!
ان الحفاظ على التراث الاسلامي هو واجب اسلامي قبل ان يكتسب الصفة الانسانية، وحيث ان الرسالة هي خاتمة الرسالات السماوية ولشمولية مناهجها ولكون انها جاءت للبشرية جمعاء فان الانسانية ككل تشترك في المسؤولية الجماعية للحفاظ على التراث والارث الاسلامي، ومن الخطأ بل من الاجحاف ان نرى تمجيد وتعظيم كل ماهو فاسد، وافساد كل ما هو عظيم، اننا جميعا بحاجة الى المزيد من المعرفة بتراثنا وفكرنا الاسلامي، ونحن بحاجة الى تطوير مفاهيم العقل الجمعي فيما يخص التراث الاسلامي، فالحفاظ عليه ليس مسؤولية اصحاب الاختصاص فقط بل انها مسؤولية مشتركة، والا سنجد انفسنا يوما منسلخين عن حضارتنا وعن تراثنا بعد تزايد العبث المتعمد بالتراث والفكر الاسلامي من هنا وهناك، وعلى كل من تعمد تهديم الاثار الاسلامية ان يتحمل المسؤولية القانونية التي تترتب على افعاله باعتبارها جرائم ضد الانسانية.
واذا كانت الامم والشعوب تهتم بتخليد تراث عظمائها، فأن تراث اعظم شخصية في التاريخ الانساني الا وهو الرسول الاعظم صلوات الله عليه وآله لهو اجدر بالحفاظ عليه وصيانته، وهنا يحق لنا ان نسأل آل سعود من اباح لهم الحفاظ على تراث ملكهم ومؤسس دولتهم في متاحف خاصة حفظت فيه آثاره وملابسه واسلحته بل وحتى سيارته الشخصية، أفليس هذا مخالفا للشرع في عقيدتهم؟! ام انهم خارج حدود الشرع والقانون؟!
|
|