سيكولوجية الرشوة
|
*عبد الكريم العامري
الرشوة ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد نفسية عديدة، متشابكة يعمد إليها طرفان: أحدهما الراشي، والآخر المرتشي، وقد يتدخل طرف ثالث وسيط لتسهيل وقوع فعل الرشوة، وهو الفعل الذي يتضمن القيام أو الامتناع عن أداء عمل من الأعمال لتحقيق منفعة شخصية لفرد أو جماعة نظير الحصول على المال.
هذا السلوك يُعد واحداً من أهم الأمراض الاجتماعية، ويوصف بانه عمل اجرامي يدينه القانون و ينبذه المجتمع والدين والاخلاق، وهو مرفوض على مستوى الفرد والجماعة. ومفاده أن الفرد ومن خلال هذا العمل يقوم بالاتجار بوظيفته أو مكانته لتقديم خدمات للآخرين بعيداً عن الطريق المستقيم وعبر طرق ملتوية وفي جنح الظلام.
ويمكننا القول إن الرشوة لا تُعد دافعا إلى السلوك، بل هي باعث عليه، يحتمل حين وقوعه أن يشبع نزعات ودوافع معينة، ذلك لأنه مجموعة مواقف خارجية يتعلمها الفرد، ويربطها بإزالة موقف مثير للقلق والإحباط والتوتر النفسي. هذا السلوك يملي على صاحبه أن يستجيب لموقف معين ويهمل المواقف الأخرى، بحيث تطوع الظروف البيئية وتحدد أنماط السلوك بما يتماشى مع المصالح الذاتية.
إن الرشوة مفهوم شائع في التحليل النفسي، أقرب ما يكون إلى التقمّص، إن لم يكن تصالحا بالفعل. إذ ينظر الفرد إلى أعراض الحالة على أنها ممثلات رمزية لاندفاعات مكبوتة، في البدء يرفض الأنا، لكن لا يلبث أن يتصالح مع تلك الاندفاعات، لأنه يدرك ما فيها من وقاية لأمن الذات فتقبل (الأنا) الأعراض في صورة رشوة. والدافع المكبوت يطلق صراحة على هيئة أعراض، لا يتعرف المريض على الدافع الطليق في طريقة تعبيره الجديدة أكثر من ذلك، لكي يتراضى الضمير الباطن، فانه يرشي (الأنا) بالمعاناة. هكذا، يمكن أن تتقبل إرضاءت اللذة المحظورة عن طريق تقديمها إلى الأنا كعقاب، في الوقت ذاته يرتشي بالمعاناة.
هذا السلوك يفتح أمامنا العديد من التساؤلات: هل الذين يرتشون هم الأفراد الذين يشعرون بالعوز المالي؟ أم غير ذلك؟ وهل وراء هذه الظاهرة – الحالة أسباب اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية ..؟ وهل هناك علاقة بين سلوك المرتشي والخلفيات التربوية أو الأجواء الأسرية في مرحلة الطفولة؟
* الأسباب النفسية الاقتصادية:
1ـ الفقر والحاجة.
2ـ تغليب القيم المادية ومعايير السوق على القيم الاخلاقية والانسانية.
عوامل الفقر والعوز المالي تؤدي على الأغلب دورا كبيرا في تشكيل سلوكيات الأفراد، وميل البعض من الناس إلى استلام الرشوة، لكننا لا يمكن أن ننظر إلى هذا السلوك على أنه نتاج عوامل اقتصادية بحتة، لذا لا يمكن أن نردد مع الناس أن الفقر هو السبب الأوحد في سلوك الرشوة. والدليل إن العوز والفقر إنما هما افراز لظروف متعددة وفقدان للاتزان القيمي والاجتماعي، وهو ما يسعى إليه الفرد، فما أن يتحقق هذا الاتزان والتوازن الاجتماعي، سنرى نهاية لحالة الفقر بنسب معينة، لكن هل تنتهي معها الرشوة؟ هذا السؤال الذي نجد الاجابة واضحة من خلال استقرائنا للواقع الموجود، إذ نجد كثيرا من المرتشين لا يشعرون بأية حاجة الى المال، بل العكس تماماً نجدهم من أصحاب المواقع المرموقة ذات الامتيازات الحقوق المالية الكبيرة التي يغبطها عليه سائر الموظفين.
إذن، فهناك علاقة بين سلوك الرشوة والتغيرات الاقتصادية السريعة والمتلاحقة، من تقلبات الوضع المعيشي، وأيضاً التقلبات في النظام القيمي في المجتمع، فتراجع قيم اخلاقية ومفاهيم انسانية، يؤدي بالضرورة الى ظهور قيم شاذة ومنحرفة تبرر للفرد سلوك الرشوة. كما أصبح البعض ينظر إلى أعمال الربا على أنها نوع من أنواع التجارة، و راق لبعضهم أن يطلقوا عليه (استثمار الأموال) أو (توظيف الأموال)، وعلى أثر ذلك تزايد أصحاب المصالح والمرابون والجشعون الانتهازيون والساعون وراء الكسب السريع، الذين هم بحق النواة الأولى لسلوك الرشوة.
*الأسباب النفسية والاجتماعية:
1ـ نقص فرص الاختيار وفقدان الوسائل المشروعة لتحقيق الأهداف.
2ـ اللامعيارية واضطراب نسق القيم.
3ـ الافتقار إلى الضمير المهني.
4ـ عدم فهم الدلالة الأخلاقية للعمل.
يمكن أن نفسر سلوك الرشوة من حيث إن المجتمع لا يتيح لكل الأفراد تحقيق أهدافهم بالوسائل المشروعة، من ثم يلجأ الأفراد إلى وسائل غير مشروعة، من بينها الرشوة.
نظرة واحدة على واقع كثير من المرتشين توضح لنا أن أمامهم العديد من البدائل، والوسائل المشروعة لتحقيق أهدافهم، لكنها تحتاج إلى بذل الجهد والطاقة و المثابرة وقليل من النضج العقلي والانفعالي، وهو ما يتناقض مع سيكولوجية المرتشي. فلو كان سلوك الرشوة هو فقط لقلة فرص الاختيار وقلة البدائل المشروعة، لكان مقصورا على الأفراد من الطبقات الدنيا دون العليا، أو على المنحدرين من مناطق ريفية دون المدينة! لكن الواقع يشير إلى أن سلوك الرشوة يكثر بين الطبقات العليا، وفي البيئات الحضرية ذات المكانة الاقتصادية المرتفعة، ومن يملكون بدائل شرعية وفرص اختيار أكثر.
وقد ينتج سلوك الرشوة عن مفهوم الأنومي (anomi) وهي اللامعيارية، فهو مفهوم يعكس المشكلات المرتبطة بضعف أو انعدام القواعد الأخلاقية العامة التي تنتج من تضارب في القيم الاجتماعية بحيث لا يوجد تصور واضح محدد حول ما هو صواب وما هو خطأ، هي تماما الحالة التي يعيشها المرتشي، وحيث الانعزال و الاستغراق في أنشطة خاصة تفتقر إلى الاشتراك في ضمير جمعي واحد، حتى إن وجد هذا الضمير فإن إحساس المرتشي به يكون ضعيفاً. وينتج من هذا السلوك؛ عدم قدرة الفرد على امتصاص الأوامر و النواهي و القيم الاجتماعية، وكذلك الفشل في تطبيق الأساليب التربوية الصحيحة.
وفي مرحلة لاحقة قد يدرك المرتشي فساد معاييره و سلوكياته و لكنه يعجز عن تكوين قيم إيجابية جديدة وإحلال أنساق قيمية أخرى.
والمرتشي ليس لديه إحساس بالواجب أو الشعور بالمسؤولية أو الرغبة الحقيقية في خدمة المواطنين. فكثيرا ما يظهر في الإهمال و الاستهتار و عدم الاكتراث. إن سوء الإدارات الحكومية أو الفساد الإداري الذي نعيشه في مجتمعنا يرجع إلى تفشي ظاهرة الرشوة وانعدام الضمير المهني.
فيما يتصل بعدم فهم الدلالة الأخلاقية للعمل لدى المرتشي، نجد أن القواعد الأخلاقية لديهم بمنأى تماما عن دائرة العمل والنشاط المهني، كأن العمل ليست له قواعده أو واجباته أو حقوقه. وعجز المرتشين عن فهم قيمة العمل، جعلهم يتمسكون بمبدأ شاذ مفاده؛ انتهاج أقصر الطرق للوصول إلى الكسب الأكثر، وإن اقتضى ذلك الانتهازية و الوصولية أو الانتقاص من قدر العمل، فأصبح المرتشي لا يؤمن بالجهد الصادق والأداء المتقن، بل إن كل ما يفكر فيه هو الجهد الأقل، و العمل الهزيل الذي يعود عليه بالمال الوفير، فتكون شخصية المرتشي مزيجا من التهاون والخيانة والسلوكيات المرتجلة البعيدة عن النظام والتخطيط.
*نسق القيم:
سلوك الرشوة يعمل على تشويه الوعي القيمي، بحيث يتبنى الفرد قيما جديدة مغلوطة ومقلوبة في آن واحد. وقد يكون ذلك بقصد أو دون قصد، أو بوعي أو من دون وعي. فالقيم لديه لا معنى لها ولا مكان لها في حياته، لأنها توجه سلوكه نحو استجابة محددة ترفض الحرية والاختيار، فيكون مقيدا تماما، في عامل واحد هو المال، فلا ينهض من دونه، ولا يتحرك إلا بأوامره.
نسق القيم لدى المرتشي متضارب و باهت و مشوه و مبني على قيم ذاتية شخصية لا توافق مع الضمير الجمعي، بل تنسجم مع مصالحه الشخصية وحسب. النسق يجعل من صاحبه المعيار لكل شيء، بحيث يصبح هو الرأي والمرئي، الذات والموضوع في آن واحد.
يوصف النسق القيمي لدى بعض المرتشين بأنه (نسق ضيق) لا يتجاوز دائرة الحياة العائلية، فالقيم الأخلاقية في نظرهم مقصورة على مسائل العرض والوفاء الزوجي، مما يعني أن الضمير الأوحد لديهم هو الضمير الجنسي، بينما تنعدم كل أنواع القيم الاخلاقية الأخرى، وإن وجدت تكون ضعيفة، خصوصا القيم المهنية.
أن أزمة القيم التي يعيشها المرتشي إنما هي أزمة تعيشها معظم المجتمعات الاسلامية ومنها المجتمع العراقي. ولو أننا ألقينا نظرة على فهمنا للقيم والأخلاق لوجدنا أن هذا المفهوم لا يتجاوز الحياة الجنسية، مع ما تتطلبه من تنظيم للعلاقات بين الرجل والمرأة. أو بالأحرى بين الذكر والأنثى، فهي لا تكاد تعدو هذه الدائرة الضيقة من دوائر السلوك البشري. ولعل هذا ما حدا بعض علماء الأخلاق إلى القول بأن الضمير الأوحد الذي نلتقي به لدى أفراد المجتمع إنما هو الضمير الجنسي، أما أن تكون لكلمة الشرف معان أخرى غير ما يتصل بمسائل العرض والعفة، فهذا قلما يخطر على بال أحد في المجتمع، آية ذلك أننا لا نعلق كبير أهمية على الضمير المهني، أو الضمير الإنساني، مقتصرين في العادة على تنمية ضميرنا الجنسي وحده.
ومن دوافع السلوك ما يتصل بالثواب والعقاب، فأسلوب المكافأة - الرشوة هي أحد السلوكات المؤسسة لهذه الظاهرة، فالإثابة تتعدد أشكالها ما بين مادية أو معنوية، ونحن ما نثاب عليه نميل إلى تكراره، وما نعاقب عليه ننفر منه ونتجنبه. لذا يرتبط مبدأ الثواب والعقاب بمفهومنا عما هو صحيح أو خطأ. ومن الطبيعي أن تكون المكافأة دافعة إلى التعلّم لكل سلوك مستحسن اجتماعيا أو يلقي عدم القبول من المجتمع.
من هنا نجد الوالدين يحاولان مكافأة الطفل على سلوك حسن قام به أو عمل يتطلب جهدا من الطفل. لكن تتحول المكافأة إلى سلوك الرشوة في الكبر، خصوصا إذا لم ينمّي الوالدان لدى الطفل الشعور بلذة العمل الجيد قبل أن يشعر بلذة المكافأة. فإذا كانت المكافأة تعويضا عن أعمال ينفر منها الطفل، أو يتطلب أداؤها مجهودا، فانه ينمو لدى الطفل سلوك الرشوة. ويتعلم الطفل إن كل نشاط أو عمل يتطلبه من إنسان آخر لابد أن يعقبه مكافأة – رشوة، حتى وإن كان عملاً إنسانياً أو ذو أهمية اجتماعية وهذا ما نلاحظه بشدة في ميادين خطيرة للغاية أبرزها التعليم والصحة والقضاء.
من هنا نفهم أن الرشوة، حالة أو ظاهرة لايتم معالجتها أو مواجهتها بالأجراءات السطحية، كونها مسألة تخص دواخل الانسان وتضرب في أعماق جذوره التربوية والنفسية، فنحن بحاجة الى عودة الى القيم الاخلاقية والدينية وتحديد المعايير الصحيحة للسلوك الاجتماعي حتى لا نشهد حالات كهذه، أو على الأقل لتكن ظاهرة شاذة ونادرة في مجتمعنا.
*باحث إجتماعي
|
|