في ضوء ذكرى دخول أمير المؤمنين البصرة سنة 36 هـ
تشييد الصرح العلمي والثقافي بعد هزيمة أهل السلطة
|
*علي جواد
حربٌ فُرضت على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو بُعد في بواكير أمره، وقد تسلّم الخلافة وأمامه ركام من الاسقاطات والأزمات التي خلفها من كان قبله، من المظالم والآثام ما كان يرى الواجب إزالة اثاره في المجتمع الاسلامي، ليعود الى جادة الصواب، لكن الحرب في البصرة، أو ما يسمى في التاريخ (حرب الجمل) والتي أجمع المؤرخون على أنها كانت (ضروس) بمعنى الكلمة، لم تمهل الإمام أن يقوم بدوره الرسالي والحضاري،
*بداية الفتنة.
لم تلاق السياسة التي اتبعها الامام علي (عليه السلام) قبولاً لدى طلحة والزيبر، فخرجا من المدينة الى مكة بعد بيعتهما للامام (عليه السلام) بعد ان سمعا بالموقف السلبي لعائشة من الامام (عليه السلام )، وعدّا ذلك فرصة للضغط على عليه وتحقيق ما كانا يصبوان اليه، فقد كان الزبير يطمع بولاية الكوفة وطلحة بولاية البصرة، وعدّ الامام علي (عليه السلام) خروج طلحة والزبير نكثاً للبيعة، لكنه آثر الامساك عن حربهم بدايةً قائلاً: (وسأمسك الامر ما أستمسك، واذا لم أجد بداً فأخر الدواء الكي)، أي آخر الدواء الحرب.
لذا كان الامام علي (عليه السلام) مضطراً للخروج الى البصرة داعياً أهل الكوفة للخروج معه، وبعد وصوله للبصرة دخل في مفاوضات مع طلحة والزبير لم تسفر إلا عن الحرب، التي تحولت في التاريخ الى فاتحة للحروب الاهلية في الاسلام، اذ لم يكن خروج طلحة والزبير أمراً مألوفاً عند المسلمين لذا كان من الصعب اتخاذ موقف بصددهم، وهنا يقول الامام علي (عليه السلام ): (فأني فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد ان ماج غيهبها، وأشتد كلبها).
والمعروف إن الناس قبل معركة الجمل كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم؟ فهل يتبعون مواليهم أم لا؟ وهل يجهزون على جريحهم أم لا؟ وكيف يتعاملون مع غنائمهم؟ وكانوا يتعظمون قتال من يؤذن بأذان المسلمين، ويصلي بصلاتهم! كما أستعظموا حرب (أم المؤمنين) وطلحة والزبير لمكانتهم في الاسلام، وقد توقف جماعة عن الدخول في هذه الحرب، كالاحنف بن قيس والحسن البصري وقصته طويلة مع الامام عندما أخبره بأن الذي أخبره بأن (القاتل والمقتول في النار) هو أخوك ابليس، وقد صدقك صاحبك، فان القاتل والمقتول منهم في النار)! ولذا أوضح لهم الإمام (عليه السلام) بالقول: (قد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم الا البصر والصبر والعلم بمواقع الحق، فأمضوا لما تؤمرون به، وقفوا عندما تنهون عنه، ولا تجعلوا في أمر حتى تتبينوا فأن لنا مع كل امر تنكرونه غيره). وهنا التفاتة جميلة من الامام الشافعي حيث قال: (لولا علي لما عرف شيء من احكام البغي).
*عاقبة النكث وحبّ السلطة
أجمع المؤرخون على شدة وضراوة (حرب الجمل) التي فرضت على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد ذهب المسلمون ضحية طموح غير مشروع للسلطة وأحقاد سوداء إزاء أمير المؤمنين، وهو من لا يجهلون منزلته ومكانته في الاسلام وعند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فكان أصحاب الإمام المتجحفلين من الكوفة يقاتلون بكل بسالة وإيمان وقناعة بأحقية الإمام وهو أيضاً من الناحية الرسمية خليفة المسلمين جميعاً، كما إن أصحاب (الجمل)، ومعظمهم من أهل البصرة كما تشير الروايات، كانوا يقاتلون بضراوة وعن قناعة بأنهم أصحاب حق لم يعطهم إياه الامام علي (عليه السلام).
ذكر (الطبري) في تاريخه: أنهم قالوا: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنا بالرماح حتى تشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت. وذكر أيضاً: ولقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل والأيدي تطيح عن المعاصم، وأقتاب البطون تندلق من الاجواف، وكانت حصيلة هذه الحرب من الايدي المقطوعة والعيون المفقوءة ما لم يحص عددها...
أما عن عدد قتلى هذه الحرب فقد تعددت الآراء فبين من عدّهم بما يزيد على ستة آلاف، ذكر آخر بان من قتل من جيش الامام علي ألف وسبعمائة، ومن أصحاب الجمل تسعة آلاف، وقال ابن عبد ربه في (العقد الفريد): قتل يوم الجمل من جيش عائشة عشرون ألفا، ومن أصحاب علي خمسمائة. وفي تاريخ اليعقوبي: قتل في ذلك نيف وثلاثون ألفا.
هذه كانت الخسائر في الارواح في ساحة المعركة وضمن فترة زمنية محدودة، لكن ماذا عن انعكاسات هذه الحرب وآثاراها على الاجيال والتاريخ والحضارة؟
إن من أخطر افرازات هذه الحرب – الفتنة السوداء، هي إشعال فتيل فتن أخرى وحروب ضروس بدأها معاوية بحرب (صفين)، ثم جاءت فتنة الخوارج، ومنذ ذلك اليوم تجرأت الخراصون والعابثون بمصير الأمة للتطاول على أمر الخلافة وجعلوها دولاً بينهم، فلا معايير ولا قيم ولا مبادئ، كما لو إن فتنة البصرة أريد لها (شيطانياً) أن تضع حداً لما أتى به أمير المؤمنين من المكارم والفضائل والقيم الانسانية التي يتحسر عليها اليوم حتى من هم على غير دين الاسلام.
قبل أن نأتي على حادثة دخول أمير المؤمنين (عليه السلام) البصرة، وهي مناسبة تحرير هذا المقال، لابد لنا من إلقاء نظرة أخيرة على ساحة المعركة قد وضعت الحرب أوزارها الثقيلة وحُسمت لصالح الحق – أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد طالب المسلمون من الإمام تقسيم الغنائم التي تركها أصحاب الجمل، فرفض ذلك بشكل قاطع، وحاول محاججتهم بقوة بأن (خذوا أم المؤمنين إن شأتم من ضمن السبايا...)! فاسقط في أيديهم، لكن هذا لم يفحمهم بالكامل، فوجهوا الى الامام كلاماً جارحاً كما جاء في بعض التواريخ.
وكانت هذه الحرب وما أفرزتها في يومها، منطلقاً لبروز عقائد وأفكار ما تزال الأمة الاسلامية تواجه نكباتها وسلبياتها، مثل المعتزلة والأشاعرة ومذاهب أخرى وجدت طريقها الى العقول القصّر من الناس بسبب ضبابية الرؤية لديهم والتباس الأمر عليهم لبعدهم عن المنهل السماوي، وإلا كان الى جانب الإمام العديد ممن لم يضلّوا طرفة عين أبدا من أمثال عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وآخرين كثيرين.
*إعمار البصرة
دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) مدينة البصرة، وهي بالحقيقة لم تكن مدينة بالمعنى الحاضر، إنما كانت بمنزلة دولة كبيرة ومستقلة كأحدى الدول على ا لخارطة الجغرافية اليوم، وقد عاث فيها الناكثون وأصحاب الجمل فساداً، فقد قتلوا فيها عامل الإمام وقاموا بأعمال اجرامية شنيعة لا مجال لذكرها، أما أمير المؤمنين (عليه السلام)، فان أول ما قام به هو إصلاح قبلة المسجد بعد انحرافها عن الاتجاه الصحيح.
ومما قام به أمير المؤمنين (عليه السلام)، إفساح المجال أمام التطور العلمي والثقافي والأدبي في هذه المدينة العريقة، فمنذ سنة 36 هـ حيث دخلها الإمام، بدأ بالقاء الخطب في المسجد وأجاب على الكثير من الاسئلة المتنوعة، ويروى أنه (عليه السلام) وبعد انتهاء واقعة الجمل رقى منبر مسجد البصرة قائلاً: (يا أهل البصرة... أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تفتح ارض يقال لها البصرة أقوم أرض الله قبلةً، قارئها أقرأ الناس وعابدها أعبد الناس).
وفي تلك الفترة سبق الإمام علي (عليه السلام) الفلكيين في التوصل لبعض المسائل الفلكية، كاشارته الى ان منطقة (الابلة) هي أبعد موضع في الارض عن السماء، فقد جاء في خطبه له عن البصرة انها: (بعيدة عن السماء)، وهو في ذلك يشير الى ما توصل اليه علماء الفلك في أن أبعد موضع في الارض عن السماء هو (الابلة)، وهو بمعنى البعد، وقد أكد ابن ابي الحديد إن الآلات الفلكية والارصاد دلت على ان ابعد ارض في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو (الابلة)، وهذه من خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) لانه اخبر عن أمر لا تعرفه العرب من قبل، بل هو أمر خاص بالعلماء و الحكماء.
ومن مأثور ما ينقل عن مسجد البصرة إنه كان المكان الذي علّم فيه الإمام الصحابي الجليل كميل بن زياد، الدعاء المعروف بـ(دعاء كميل)، وهناك حفظ كميل هذا الدعاء وسجله ليحمل اسمه فيما بعد ويكون سنّة حسنة يتداولها الأجيال ويقرأون هذا الدعاء كل ليلة جمعة وفي ليلة الخامس عشر من شعبان، لما فيه من الأهمية العظيمة.
ولما اراد الامام الانصراف من البصرة عين عليها عبدالله بن عباس المعروف بفقهه حيث أخذ يلقي دروس في الفقه والتفسير والاخبار في مسجد البصرة حيث تخرج على يديه كبار التابعين وتشكلت نواة مدارس في الفقه والتفسير والاخبار والكلام، فمن اهم المهام التي اضطلع بها مسجد البصرة القضايا الثقافية حيث صار أشبه بجامعة مصغرة يجتمع فيها الاساتذة من مختلف الاختصاصات مع طلبتهم، حيث تتشكل حلقات عدة، فحلقة للنحو حيث عرفت البصرة بمدرستها النحوية فعلم النحو من علوم اللغة العربية التي ابتكرها الامام (عليه السلام) حيث أملى على ابي الاسود الدؤلي جوامعه واصوله التي منها: الكلام على ثلاثة اقسام: اسم وفعل وحرف، والكلمة: اما نكرة او معرفة، وتقسيم وجوه الاعراب من حيث الرفع والنصب الجر والجزم.
هذه الحلقات لم تكن خاصة بأهل البصرة، فقد اجتذب التوجه العلمي الواسع والعميق في هذه المدينة العديد من طلاب العلم والأدب لأن يتوجهوا الى البصرة وينهلوا مما أفاض به أمير المؤمنين من العلوم، وهذه بحد ذاتها تُعد تركة بسيطة للامام الذي كان فاتحاً هذه المدينة بعد حرب ضروس، كلفت المسلمين الالاف من الضحايا والخسائر المادية والمعنوية. هذا يدلنا على أن أمير المؤمنين لم يكن ليغادر البصرة قبل أن يعطيها حقها، ويحفظ لأهلها كرامتهم الانسانية، إذ ربما الكثير منهم لم يكونوا مسؤولين عما جرى، رغم إنه (عليه السلام)، جلد أهل البصرة بعبارات قاسية أنبهم على تخاذلهم عن الحق وطاعتهم للهوى، ويمكن للمتابع مطالعة (نهج البلاغة) ليلاحظ مدى التألم والتبرم الذي كان يعيشه الامام (عليه السلام) مما جرى، فلا شماتة ولا تشفي سوى تكريس الدروس والعبر، لئلا تتكرر فتن ومآسٍ كهذه على المسلمين، طبعاً هذا ما كان يريده أمير المؤمنين (عليه السلام)، أما نحن فالحديث متروك للزمن.
|
|