المرقد الشريف .. مسيرة مع التاريخ في البناء والتشييد والتقرّب الى أهل البيت عليه السلام
|
*اعداد / حسين محمد علي
ان بناء المساجد والقباب والأضرحة حول قبور المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام والصحابة المؤمنين والشخصيات الإسلامية، تُعد من أفضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى: لقوله تعالى: "قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِداً" (الكهف:21).
وعلى ذلك جرت سيرة المسلمين خلفاً عن سلف بالبناء والإشادة عليها منذ أول الإسلام، وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة المنورة وقبور الأئمة عليهم السلام والعلماء الصالحين في مختلف البلاد الإسلامية من أصدق الشواهد على ذلك، ومن تلك القبور قبر الحسين عليه السلام ففيه منبع القداسة والبركة وفق الروايات الشريفة وكونه نبراساً للمؤمنين ومنهلاً للمبادىء والقيم الاسلامية الأصيلة لذلك فقد عُمّر وبنيت عليه القباب اكثر من مرة وفيما يلي موجز بتاريخ تلك العمارات:
البناء على القبر الشريف
تتعدد الاقوال عن أول من بنى على مرقد الامام الحسين عليه السلام وتاريخه تحديداً، فمن يقول ان أول من بنى القبر الشريف هم بنو أسد الذين شاركوا الإمام زين العابدين عليه السلام في مواراة الأجساد الطاهرة لآل بيت النبوة عليهم السلام، ونستشف ذلك من خبر مجيء التوابين إلى القبر الشريف وأنه في ذلك الوقت وهو سنة هلاك يزيد (63 أو 64) كان ظاهراً و معروفاً ولا يكون ذلك إلا ببنائه. وتقول الرواية ان الامام السجاد وبعد ان اكمل مراسيم الدفن كتب بانامله على تراب قبر والده الطاهر بعد رشه بالماء، (هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب المقتول عطشاناً)!
وهناك رواية تشير الى ان اول من وضع سقيفة على المرقد الشريف هو المختار بن عبيدة الثقفي عندما تولى الحكم في العراق وأقتص من قتلة الامام الحسين عليه السلام. ويبدو ان هذه السقيفة او البناء البسيط بقي لسنوات حتى زمن الامام الصادق عليه السلام الذي وفد كربلاء المقدسة وأقام فيها لفترة من الزمن في المكان الذي ما يزال مشهوداً بالقرب من مقام الامام صاحب الزمان عجل الله فرجه.
عمارة القبة الشريفة.
شهدت القبة الشريفة وعموم الروضة الحسينية المطهرة عمليات بناء وتجديد وتشييد خلال العهود الماضية، وحتى نعطي كل ذي حقٍ حقه، فان بناء هذه البقعة الشريفة والعظيمة، على يد ملوك وسلاطين متعاقبين في البلاد الاسلامية، يُعد بحق حظوة وتوفيق الهي لهم، ربما لعمل صالح قاموا به، او نية صالحة كانت لديهم إزاء اهل البيت عليهم السلام والموالين لهم. لذا نذكر مراحل البناء منذ عهد الدولة الاموية وحتى الفترات المتأخرة والقريبة من الزمن المعاصر.
العمارة الاولى
تفيد المصادر ان في زمن الدولة الاموية كانت هنالك سقيفة ومسجد، واستمر ذلك إلى زمن هارون العباسي، لكن لا يعلم أول من بنى ذلك. ويدل الخبر الذي رواه السيد علي بن طاوس في (الإقبال) عن الحسين بن أبي حمزة أنه (كان عليه سقيفة لها باب في آخر زمن بني أمية حيث قال فيه: خرجت في آخر زمن بني أمية وأنا أريد قبر الحسين عليه السلام إلى أن قال: حتى إذا كنت على باب الحائر خرج إلي رجل ثم قال: فلما انتهيت إلى باب الحائر. ثم قال فجئت فدخلت).
و روى ابن قولويه في (كامل الزيارات) عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه السلام في كيفية زيارة الحسين عليه السلام أنه قال: (فإذا أتيت الباب الذي يلي الشرق قف على الباب وقل....) ثم قال: (ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء). وهو دليل صريح على أن هنالك بناء وسقيفة له باب من الشرق وقوله (الباب الذي يل الشرق) يدل على وجود باب غيره.
وفي حديث صفوان الجمال عن الصادق عليه السلام: (إذا أردت زيارة الحسين بن علي فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل.... ثم ادخل رجلك اليمنى وأخر اليسرى وقل... ثم ادخل الحائر وقم بحذائه). وقال الشيخ المفيد – رضوان الله عليه- في مزاره عند ذكره لرواية صفوان بن مهران: فإذا أتيت باب الحائر فقف ثم تأتي باب القبة فقف من حيث يلي الرأس ثم أمش حتى تأتي مشهد العباس بن علي فقف على باب السقيفة وقل.... و روى ابن قولويه بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه السلام: (فإذا أردت زيارة العباس فقف على باب السقيفة وقل... ثم أدخل.
وبقيت هذه القبة إلى زمن هارون العباسي فهدمها و حرث موضع القبر وكانت هنالك شجرة (سدرة) فقطعها، لكن ذكراها ما تزال في الاذهان وفي المكان ايضاً، حيث سمي أحد ابواب الروضة الحسينية حالياً باسم (باب السدرة) ومنه تفرع شارع بنفس الاسم عند توسعة المدينة واستوطنها الناس بمرور الزمان.
العمارة الثانية:
وفي زمن المأمون أعيد بناء القبة والمرقد الشريف، ولكن ما أن جاء المتوكل الى سدة الحكم إلا وشهد القبر الشريف حملة شعواء لا مثيل لها من الهدم والالغاء التام. قال الطبري في تاريخه: في سنة 236 أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه، وذكر أن عامله و صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثاً بعثنا به إلى السجن، فهرب الناس وامتنعوا من المسير إليه، وحرث ذلك الموضع و زرع ما حواليه ويعلم من ذلك أنه كان قد بني حوله دور ومساكن وسكن الناس هناك لقوله أنه أمر بهدمه وهدم ما حوله من المنازل والدور.
و روى الشيخ الطوسي في (الأمالي) بلغ المتوكل (جعفر بن المعتصم) أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فيصير إلى قبره منهم خلق كثير فأنفذ قائداً من قواده وضم إليه عدداً كثيفاً من الجند ليشعث قبر الحسين ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره، فخرج القائد إلى ارض الطف وعمل بما أمر وذلك في سنة 237هـ فثار أهل السواد واجتمعوا عليه وقالوا لو قتلنا عن آخرنا لما امسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى المتوكل فورد كتابه الى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر فمضى على ذلك الزمن حتى كانت سنة 247 فبلغ المتوكل أيضاً مسير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام وأنه قد كثر جمعهم، وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زاره ثم نبش القبر وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة، وعمد على تتبع آل أبي طالب والشيعة وقتلهم والتنيكل بهم. ويكون المتوكل قد واصل عملية الهدم ومنع زيارة الامام الحسين عليه السلام بقسوة غير مسبوقة، من سنة 236هـ حتى سنة 247هـ وفيها قتل على يد منافسيه على الحكم من الاسرة العباسية.
تؤكد العديد من المصادر ان شيعة اهل البيت والموالين سجلوا في تلك الفترة العصيبة، اروع الملاحم البطولية في التحدي والتضحية من اجل الوصول الى مرقد سيد الشهداء وتجديد العهد والولاء عند مرقد الشريف، وفي تلك الفترة تحديداً تم بتر الايدي والارجل وحتى قتل بعض الزائرين بعنوان ضريبة دخول الاخرين، وذلك لتخويفهم و حملهم على ترك الزيارة ، لكن اهداف الزيارة وما تتضمنه من مفاهيم ودلائل كانت اكبر من ذلك بكثير.
العمارة الثالثة
بعد هلاك المتوكل جاء ابنه المنتصر. وتشير المصادر التاريخية الى انه كان على النقيض تماماً من ابيه الناصبي والحاقد على اهل البيت عليهم السلام، فقد عطف المنتصر على آل أبي طالب وأحسن إليهم وفرق فيهم الأموال وأعاد القبور المشرفة وسمح للناس بزيارة قبر الحسين عليه السلام. وقال المجلسي في (البحار) أن المنتصر لما قتل أباه وخلفه من بعده أمر ببناء الحائر وأحسن إلى العلويين وآمنهم بعد خوفهم.
العمارة الرابعة
وهي عمارة محمد بن زيد من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بالداعي الصغير، ملك طبرستان بعد أخيه الحسن الملقب بالداعي الكبير، وقد بنى المشهدين (الغروي) و (الحائر) أيام المعتضد.
العمارة الخامسة:
وهي عمارة عضد الدولة فناخسرو بن بويه الديلمي. فقد كان هذا الملك البويهي يبالغ في تعظيم وتشييد عمارة الروضة الحسينية والأوقاف عليها، وكان يزورها كل سنة. وفي كتاب لبعض المعاصرين أنه لما زار المشهد الحسيني سنة 371 بالغ في تشييد الأبنية حوله وأجزل العطاء لمن جاوره، وقد توفي سنة 372 بعدما ولي العراق خمس سنوات وفي زمانه بنى عمران بن شاهين الرواق المعروف برواق عمران في مشهد الإمام الحسين.
العمارة السادسة:
وهي عمارة الحسن بن مفضل بن سهلان أبو محمد الرامهرمزي وزير سلطان الدولة بن بويه الديلمي. قال ابن الأثير في حوادث سنة 407 فيها في 14 ربيع الأول احترقت قبة الحسين والأروقة وكان سببه أنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين فسقطتا خلال الليل على السجاد فاحترق المكان، فجددها الوزير المذكور. وفي (مجالس المؤمنين) عن تاريخ ابن كثير الشامي أنه بنى سور الحائر الحسيني وقتل سنة 460 قيل هو الذي ذكره ابن إدريس في سنة 588 في كتاب (المواريث من السرائر) وهذه العمارة هي التي رآها ابن بطوبة وذكرها في رحلته التي كانت سنة 727.
العمارة السابعة:
وهي القائمة الآن و أمر بها السلطان أويس الايلخاني سنة 767 وتأريخها هذا موجود فوق المحراب مما يلي الرأس وأكملها ولده أحمد أويس سنة 786 وقد زيد فيها وأصلحت من قبل الملوك الصفويين وغيرهم، وفي عام 930 أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً بديع الصنع إلى القبر الشريف وفي عام 1048 شيد السلطان مراد العثماني الرابع القبة وجصصها وفي سنة 1135 أنفقت زوجة نادر شاه مبالغ طائلة لتعمير الروضة الحسينية وفي سنة 1232 أمر فتحعلي شاه بتذهيب القبة الشريفة لأول مرة.
ولم تتوقف مراحل الاعمار عند هذه المرحلة فقد تبعتها مراحل عديدة، لكن كان ذلك اهمها في العهود الماضية، والتي كان لها الاثر في تشييد الروضة الحسينية والمرقد الطاهر لسيد الشهداء عليه السلام. ويروي الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) ان جده لابيه المرجع الراحل الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) شارك في مع جمع من علماء الدين والوجهاء في كربلاء المقدسة مطلع القرن الماضي في عملية توسعة الحائر الحسيني من خلال شراء الدور والمساكن الملاصقة لجدار الروضة الحسينية، وكان منها دار رفض صاحبها بيعه بدايةً واصروا عليه، ثم جاؤوا اليه فوجدوا انه زين الدار وجدد طلائه فتصوروا انه يطالب بثمن باهض، لكنهم فوجئوا بان صاحب الدار يريد ان يهدي أنظف وأجمل دار لسيد الشهداء عليه السلام، وهو ما اثار استحسان واستعظام المجموعة المكلفة بامر التوسعة فطلب الميرزا الشيرازي من صاحب الدار الموقوفة ان يكون هذا المكان محل دفنه مع افراد اسرته، وكان له ذلك، والمكان مشيد حتى الآن يزوره المؤمنون، فقد ضم الجثمان الطاهر للمرجع الراحل كما ضم جثمان حفيده السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سرهما).
*المصدر: موقع (الشيرازي . نت)
|
|