مسلم بن عقيل .. ينطلق سفيراً الى أهل الكوفة
مهمة مستحيلة من أجل ثورةٍ على النفوس
|
*عبد الخالق حسين
دخل الكوفة... فوجدها مدينة اشباح، يسودها الهدوء القاتل. الدوريات العسكرية وحدها تجوب اسواقها المعطلة، ولم يدم تجواله طويلا فما لبث ان قبضوا عليه...!
من انت ؟ وما الذي جعلك تتخلف عن دعوة الامير بالنفير؟!
عقلت الدهشة لسانه، وأي أمير وأي نفير...؟!
انا رجل من البادية.... قبل ان يكمل حديثه اسكته احد الجنود وقال: لا وقت لنا لسماع حديثك، اذهب معنا الى الأمير لينظر في امرك.
مثل الرجل امام ابن زياد فسأله لم لم تذهب الى قتال الحسين ؟
قال: أيها الأمير انا رجل من الاعراب كنت قد بعت رجلا من اهل الكوفة نياقا بأجل، وجئت لاقبض ثمنها .
كانت نبرات الصدق واضحة في كلمات الرجل، و كان يتكلم بثقة كافية، فنظر ابن زياد الى جلسائه وقال: أظنه صادقاً، ولكنه التفت الى الجلاد. وقال : خذه واضرب عنقه ليكون عبرة لغيره! وبعد لحظات كان رأس الاعرابي يتدحرج امام قدم ابن زياد ليكون شاهداً جديداً على السياسة الدموية للنظام الأموي.
في المقابل كان في الساحة شخص بدأ حركته معززاً بآلاف المناصرين والمؤيدين لكن بعد ساعات وجد نفسه وحيداً في طرقات الكوفة التي يجهلها، ولا يجد من يدله على الطريق!
*النشأة في بيت الرسالة
كان عقيل بن أبي طالب أنسب قريش واعلمهم بايامها، وكان والده ابو طالب يكن له حباً جماً، وقد احبه رسول الله كثيرا وقال في حقه بعد ان سأله امير المؤمنين علي عليه السلام عن حبه لعقيل فقال: صلى الله عليه وآله : اي والله اني لأحبه حبّين حبا له وحبا لحب ابي طالب له، وقال ان ولده لمقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون، وقد رزق الله عقيلا مولودا مباركا سماه مسلماً، حيث ترعرع ونما في البيت الهاشمي، حيث مهبط الوحي. ومحور حركة الأمة وقطب الحياة الدينية والسياسية، فرعته التربية المتميزة لهذا البيت الرفيع فلما شبّ التحق كسائر اترابه بالجيش الاسلامي الذي كان يجوب يومئذ الآفاق.
اشترك مسلم في حروب الردة الأموية منضوياً تحت راية عمه الامام علي عليه السلام، واستبسل في الدفاع عن الاسلام النقي الاصيل، ضد الجاهلية المغلفة بغلالة من الطقوس الظاهرية .
وكان قد تزوج بنت عمه الامام علي (رقية) التي انجبت له ذرية صالحة. ذكر المؤرخون منهم عبد الله وابراهيم اللذين استشهدا في تلك الواقعة الأليمة على شاطئ الفرات، وبنتاً لعلها (حميدة) وقيل اكثر من ذلك، وأيا كان فانه فدى ذريته في الله، فلا عقب له.
*كتب البيعة و المهمة
وعندما راسل اشراف الكوفة الامام الحسين - عليه السلام - بان يقدم اليهم، وكتبوا له فيما كتبوا .
بسم الله الرحمن الرحيم
(الى الحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين اما بعد ..
فجئ أهلاً، فان الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثم العجل العجل، والسلام)
وجاء في بعضها :
(اما بعد فقد اخضر الجناب، واينعت الثمار، واعشبت الارض، واورقت الاشجار، فاذا شئت فاقبل على جند لك مجندة والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى ابيك من قبلك)
وهكذا تواترت الرسل والرسائل حتى بلغت اثني عشر ألف كتاب، حسب بعض المصادر. وهنالك اتخذ الامام قراره الحاسم بالقيام انطلاقا من الكوفة، ضد الطغمة الأموية الفاسدة، فانتدب مسلم بن عقيل، ليكون رسوله الى أهل الكوفة، فأرسل معه رسالة جاء فيها :
(... انا باعث اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، مسلم بن عقيل، فان كتب إلي بانه قد اجتمع رأي علمائكم و ذوي الحجى والفضل منكم، على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم، فاني اقدم اليكم وشيكا، ان شاء الله)
لقد كان مسلم فقيها قائدا، وبطلا باسلا، وقد صاغته آيات الكتاب، وسوح الجهاد وعبادة الاسحار؛ حتى رفعه الله مقاما محمودا .
كانت حياته أرخص شيء عنده إذا احس بأدنى خطر على الدين... لقد وسّعت آيات الكتاب آفاق بصيرته، فكان ينظر الى الدنيا انها مجرد متاع في الآخرة. وان اللبيب من يشري نفسه ابتغاء مرضاة ربه .
وهكذا انطلق مسلم، سلام الله عليه من مكة حاملا هموم أمة أرادها الله خير أمة. وارادها الدخلاء والطلقاء مطية لأهوائهم .
انطلق مسلم الى المدينة حيث مرقد الرسول - صلى الله عليه وآله - وحيث اهله الاقربون. فصلى عند قبر صاحب الرسالة ركعات، و ودع قائد الأمة، ثم ودع اهله على خوف من فراعنة عصره. واتخذ طريقا الى العراق على غير الجادة.
وكان ابن عقيل عارفا بخطورة المهمة التي يتجه اليها، اولم تكن واقعة عاشوراء ميراثا فكريا لآل بيت الرسول يتواصون بها، ويتساءلون عن تفاصيلها؟ أو لم يبشر الرسول صلى الله عليه وآله امير المؤمنين عليا عليه السلام بان ولد عقيل يقتل في محبة ولده، أو لم يسمع مسلم هذه الرواية و وعاها؟ لقد ودعه الامام الحسين عليه السلام بالقول: اني موجهك الى أهل الكوفة وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى، وارجو ان اكون انا وانت، في درجة الشهداء فامض ببركة الله وعونه.
الفراغ .. مكمن الخطر
كانت الكوفة، وهي إحدى الحواضر الاستراتيجية المهمة في الدولة الاسلامية، تعيش حالة من عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي والسياسي، وكان أهلها يشعرون بالهزيمة النفسية والعسكرية أمام جيش معاوية، حيث وجدوا ان ابطالهم وقادتهم صرعوا إما بسيوف الغدر والخيانة أو بالتخاذل وسط المعركة، فيما تم شراء رموزهم الاجتماعية من رؤساء القبائل وقادة الجيش بدنانير معاوية، ولم تكن المحصلة سوى تسلّط الاخير عليهم وخسارتهم لعلي وابنه الحسن بشكل مأساوي ومريع.
من المفارقة إن اهل الكوفة في تلك الفترة كانوا اصحاب امتيازات تاريخية لا تتكرر في معسكر الرسالة، فقد كانوا تحت خيمة الخلافة الاسلامية بشكل رسمي مجمع عليه من قبل الأمة الاسلامية بأسرها، والأهم من ذلك انهم كانوا تحت ظل شخصية مشهود لها في الاسلام وعند رسول الله، لكنهم ضيعوا هذه الفرصة التاريخية العظيمة ليأتي يوم يكونوا فيه تحت سوط وسيف من هو أدنى من معاوية – ابنه- وأكثر إمعاناً بالفتك والقمع.
من هنا عاشت الكوفة في فترة أخذ البيعة ليزيد أشبه بحالة الفراغ السياسي والثقافي، صحيح هناك من وجوه الشيعة في المدينة مثل مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر الاسدي والمختار بن عبيده الثقفي وسليمان بن صرد الخزاعي، إلا ان هؤلاء لم يكونوا في أطار واحد لحركة رسالية هدفها توعية الناس وكشف الحقائق لتكون دعوتهم الامام الحسين منطلقة عن قناعة وايمان كاملين بأحقيته في الخلافة والتضحية من أجل هذا الهدف.
عندما وصل مسلم الكوفة اتخذ من دار المختار بن عبيد الثقفي، مكاناً لاقامته ومنطلقا لتحركه، حيث كان يستقبل الشيعة ويقرأ عليهم كتاب الامام أبي عبد الله الحسين عليه السلام فيبكون واخذ الناس يبايعونه حتى بلغ عدد من بايعه ثمانية عشر الفاً. وهناك كتب الى الامام الحسين عليه السلام يخبره بأمر الناس ويطلب منه القدوم .
وكان النعمان بن بشير واليا على الكوفة من قبل بني أمية، فلما بلغه خبر ابن عقيل صعد المنبر والقى خطابا فهم منه أهل الكوفة، انه متردد من مناهضة الحركة حيث قال: اني لا اقاتل من لا يقاتلني، ولا أتي على من لم يأت علي، ولا أنبه نائمكم، ولا اتحرش بكم، ولا أخذ بالتعرف، ولا الظنة، ولا التهمة.
فاتهمه رجال بني أمية بالضعف، فقال له عبد الله بن مسلم : هذا الذي أنت عليه، فيما بينك وبين عدوك، رأي المستضعفين! فقال له النعمان: ان اكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب الي من ان اكون من الاعزين في معصية الله.
وهكذا كتب عبد الله بن مسلم الى يزيد يحرضه على النعمان، ويتهمه بالضعف، الامر الذي دعا يزيد لاختيار عبيد الله بن زياد الذي كان والياً على البصرة، وذلك بتوصية من مستشاره الرومي (سرجون) لمعرفته بالطبيعة الاجرامية والدموية لابن زياد.
تقول المصادر ان ابن زياد أسرع بالذهاب الى الكوفة، فلم يتوقف ولا ساعة في الطريق، وجاء في بعض المصادر انه كان يستبدل الخيل باستمرار لأنها كانت تنفق بسبب الاجهاد والتعب!
وقد بدأ ابن زياد ولايته بالمكر والحيلة، فدخل الكوفة متنكراً فظن اهلها انه الامام الحسين عليه السلام، فعلا هتافهم: (الله اكبر)... نحن معك يا ابن رسول الله...! فلما ازدحموا عليه حسر اللثام قائلا انا عبيد الله. فاسقط في أيدي القوم. وتراجعوا فدخل دار الامارة. وبدأ يحوك المؤامرات ضد الحركة الرسالية.
يتفرقون عن حقهم مرة أخرى
لقد تكرر التاريخ القريب مع أهل الكوفة، فكما أشرنا آنفاً أنهم كانوا يرفلون بنعمة نظام حكم أمير المؤمنين، لكن صدق قوله عليه السلام وهم يخوضون معركة (صفين)، (... أما ترون ان القوم مجتمعون على باطلهم وأنتم متفرقون عن حقكم)، وها هي الفرصة تأتي مرة أخرى لأهل الكوفة، حيث ابن زياد رغم المساندة الأموية والنهج القمعي والجواسيس والاغراءات وغير ذلك إلا انه كان يشعر بالقلق والخوف الشديدين على مستقبله السياسي أمام التحدي العظيم للحركة الرسالية، وهو لا يجهل وجود شريحة لابأس بها من الواعين بأمر أهل البيت عليهم السلام.
وبعد أن عرف مسلم عليه السلام بما حلّ بهانئ بن عروة على يد ابن زياد وجد أن مناص من الخروج الى الشارع وخوض المواجهة المكشوفة مع النظام الاموي، وبدعوة واحدة للتعبئة الجماهيرية المسلحة خرج اليه الالاف حاملين سيوفهم، وما أن سمع ابن زياد بالخبر أسرع الى دخول قصر الامارة وأغلق الابواب ليكون مطوقاً من قبل جيش مسلم، وهكذا اطلق الشعار المعروف: (يا منصور أمت) وهو الشعار الذي كان يرفعه المسلمون في غزواتهم مع رسول ا لله صلى الله عليه وآله، ولم يلبث ان انتشر في الكوفة هذا الشعار واجتمع الناس حوله.
ثم ان مسلم بن عقيل عليه السلام نظم جنده في اربعة ألوية، وامتلأ المسجد بانصاره وبدا للجميع ان حركته قد نجحت، ولم يبق سوى خطوات للقضاء على ابن زياد وجماعته داخل القصر. لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل، إنما حصل بعد خمس سنوات من هذا التاريخ في حركة المختار بن عبيد الثقفي والتي انتهت بقتل ابن زياد. فالمشكلة كانت نفسية وثقافية بالدرجة الاولى، إذ كان الجبن وحب المال والنفس، ما يزال متجذراً في نفوس أهل الكوفة، بل يمكن القول أن رسائلهم الى الامام الحسين عليه السلام، كانت ترمي بالحقيقة الى توفير حياة الراحة والابتعاد عن المشاكل، ولنفترض ان الامام الحسين كان قد وصل الكوفة واصبح فيها حاكم، ثم دعا الناس لقتال يزيد، فانه من المؤكد انهم سيكررون نفس تجربتهم مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام.
وعليه، بدلاً من أن يشعر ابن زياد بنهاية أجله وهو محاصر بآلاف المناصرين لمسلم وهم يطالبون على الاقل بدم هانئ بن عروة، انقلب الأمر على مسلم نفسه إذ بات هو الذي بدأ يشعر بنهاية محزنة ومأساوية لحياته ومهمته في هذه المدينة، فقد تفرق عنه القوم بسبب شائعات ودعايات الأمويين المعروفة، بان جيش الشام قادم اليكم... فالحذر من الاستمرار في هذا التجحفل... وليلحق كل واحد بأهله... وهكذا وجد مسلم ان أولئك الانصار وتلك السيوف المشرعة تعود الى غمدها ولا يبقى معه في صلاته إلا ثلاثون شخصاً، وما أن خرج من المسجد إلا وهو وحيداً فريداً في طرقات الكوفة، فقد ضمن ابن زياد ومن خلفه النظام الأموي الأمن والاستقرار، وله الموقف الحرج والمؤسف.
حقاً إن قضية مسلم بن عقيل وأهل الكوفة، يجب ان تدرس في مناهجنا التاريخية للأولاد على مر الاجيال، وذلك خدمةً لهم لا لأمر آخر، حتى لايكونوا في موقف مخزٍ ومذل كالذي آل اليه أمر أهل الكوفة بعد يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، ولا يكونوا بحاجة الى بذل الكثير من الدماء في مواجهة الانظمة الظالمة والديكتاتورية التي طالما تغذت وترعرعت في ظلام الجهل والتسطيح الذي ما تزال تعاني منه الأمة.
|
|