قصة قصيرة
بيت القملة
|
*عبد الامير الحجر
كانت لعبة جميلة علمتني اياها جدتي العجوز ايام كنت صغيرة اذ كلما ارادت ان تزجي وقتها عند الضحى اكون انا قد وضعت رأسي الصغير على فخذها الطري النحيف بعد ان نفترش التبن تحت شمس الشتاء التي تفيض على جسدينا بالدفء عند الجانب الشرقي من كوخها القصب الغافي على ضفة شط قريتنا التي تتسامق بين بيوتها الاشجار والنخيل، كنت اشعر بالضجر وابدي ممانعة لما تدعوني لتفلّي رأسي كي لا احرم نفسي متعة اللعب مع اترابي لكنني سرعان ما استسلم للذة غريبة تنبعث من بين اصابعها وهي تجوس في شعري الاشعث تعقبها بين حين وآخر ضغطة على الرأس اسمع بعدها طقة خفيفة فاعرف حينها انها قصعت قملة ظفرت بها مختبئة بين الشعر ولما تضرب على كتفي وتسحب نفسها اعرف انها ضجرت او نسيت عملا ما كثيرا ما اراها تتصنعه لتملأ نهاراتها الطويلة لكنني اشعر بالراحة لان راسي لم يعد يحكني اكثر واسرع مسروراً نحو اترابي لأواصال اللعب معهم.
ذات يوم كانت البداية مع اول درس و اول لقاء لي مع القمل حين دعتني جدتي لافلي رأسها ولاول مرة اعرف ان لها كل هذا الشعر الكثيف عندما اسفرت عن جدائل طويلة حمراء بفعل الحناء وبعروق بيض كثلوج الجبال التي تتعامد امامي الآن عند الحدود اخذت تفتحها تحت الشمس على مهل ولما جلست قربها تمددت على التبن واضعة راسها على فخذي ولاني لم اعرف الفلي من قبل راحت تعلمني كيف اقصع القمل الذي صارت مهمة اكتشافه فيما بعد مسلية!!
قالت لي: احصر القملة بين ظفري الابهامين واضغط، وعندما اقصع اسمعها تقول لي: عفية! وكلما اوغلت في القصع وتركت خلف اصابعي الكثير من جلود القمل السوداء المفرغة بين غابة شعرها الكثيف وعدتني ان تفلي رأسي او كافأتني بحفنة من زبيب تدخره في صناديقها لايام الاعياد لكن متعتي باللعبة الجديدة التي علمتني اياها كانت تفرحني وتنسيني بهجة اللعب مع الاصحاب فحينما اكتشفت قملة اخبرها فتقول: لا تفلت منك.. اتعقبها وهي تسعل لتلوذ في مجاهل الشعر الذي افتحه باصبعي بصعوبة وتبقى تحت عيني حتى اقصعها.. احيانا اناكدها وأضع القملة بين يدي لاريها مهاراتي في الاصطياد فتبادر باحتداد: اقصع اقصع..!
حين طالت قامتي كانت سنوات الحرب، صحارى واسعة تهت وسطها بعيدا عن قملاتي القديمات وكلما تذكرت ايامي نقلتني اطياف الطفولة الى احضان جدتي اتجول بين شعرها الكثيف من مكان الوذ به بين القمل من طيش الرصاص وتنتابني لحظات اشفاق مجنونة على تلك الكائنات الصغيرة التي لا تدري لماذا تطاردها الاصابع الرشيقة في اي شعر حلّت..! كنت اسير وسط الاحراش القريبة من مواضع وحدتي العسكرية عندما خيل لي انها تدعوني للعب وسطها فاغير ساعات افتش عن قريتي التي اسمع هسيس بيوتها القصب يناغي حفيف الاحراش العالية بين الجبال، يناغيني!.. احيانا انام لاحلم باهلي وجدتي العجوز التي رحلت و اورثتني عشق القمل و عشق مصارعه! حين يكون مصرع القملة لعبة تلهو بها الاصابع وتنعس بعدها الاجفان لتحلم باشياء عديدة جميلة ليس فيها للقمل القتيل اي مكان!...
لم تكن شمس الضحى كافية لبث الدفء بين الاحراش لكنها كافية لتفضح لهو الحشرات بينها بعيدا عن مرابض الجنود، اشعلت سيجارة وهممت بمد يدي نحو حشرة صغيرة تشبه قليلا احدى قملاتي الشهيدات كنت اود امساكها لانتزع منها لحظة طفولة واحدة تبعدني عن المكان، لكنني فوجئت برعد يعكر صفو السماء يقترب فاسرعت راكضا بين الاحراش العالية لاخفي نفسي عن عين طيار المروحية التي فاجأتني من فتحة بين الجبال المقابلة كان رأسي الحاسر يفضح سواد شعري بين الخضار وانا اجري في الشق الذي احدثه هواء المروحية يتعقبني طيارها بسرعة وبسهولة رفعت رأسي باستسلام وقنوط فخيل لي ان للطائرة اصابع عملاقة ستلتقطني ان لم يقتلني طيارها الذي رأيته مصوبا سلاحه ونظره إليّ يبتسم لي او خُيل لي ذلك.. وفي لحظة ستظل اسيرة الذاكرة احاطتني شبكة هبطت من الطائرة والتفت حولي اخذت احرك يدي وقدمي لاتخلص من دون جدوى ثم ارتفعت بي واستدارت بصيد سهل سيمحو اسمي السابق او يغلفه تحت مسمى جديد.. اسير في تلك اللحظات احسست ان صوتا ياتيني من الخلف في الجهة المقابلة التي تركتها ويتسرب بداخلي يلقي بي على ضفاف شط قريتنا حيث جدتي العجوز مسفرة عن شعرها الكثيف ورأسها على فخذي الذي التف الآن على جسدي المتكور في الشبكة المعلقة في الفضاء يتردد علي بالحاح.. اقصع.. اقصع.. !! اقـ..ص ع.
|
|