في ذكرى وفاتها..
أم البنين. . مدرسة الاخلاق و البطولة و الوفاء
|
*زهراء محمد علي
(أم البنين). .. فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية. أمها ثمامة بنت السهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب. هذه المرأة العظيمة في صبرها وأدبها وتضحيتها، حاضرة في الوجدان دائماً، لكن لماذا...؟ لقد ارتبط اسمها بواقعة الطف فاضحت جزءاً لا يتجزأ من قضية الامام الحسين عليه السلام في الثورة على الباطل وايضاً على النفوس. وهذا ما يدعونا لأداء الواجب إزاء هذه الشخصية الملهمة، وإحياء ذكرى وفاتها بتسليط الضوء على جوانب مضيئة من حياتها الشريفة، علماً ان التاريخ الذي طالما ظلم العظماء والكبار، لم يقتصر أم البنين بزوايا مظلمة ومعتمة، فلم يصل بايدينا من هذا التاريخ سوى أسطر معدودة عنها، لكن مع ذلك فان حرارة هذا الاسم في القلوب كافية لأن توثق وتقوي العلاقة بيننا وبين أم البنين (رضوان الله عليها).
في مدرسة الامام علي (ع)
قبل الحديث عن شخصية أم البنين (رضوان الله عليه)، لابد من الاشارة الى قضية هامة يشير اليها علماء الدين والمهتمون بالمجتمع الاسلامي، بان أمير المؤمنين عليه السلام قدم لنا وهو في زحمة الظروف السياسية آنذاك، دروساً بليغة في الحرص على كيان الأسرة وعدم التغافل عن أمر الزواج مهما كانت الظروف، وعدم بقاء الرجل او المرأة دون زواج، سواء كانت الوحدة بسبب العزوبية أو موت أحد الزوجين او حتى لدى حصول الطلاق – لا سمح الله-، فقد تزوج عليه السلام بعد وفاة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام بثمانية أيام فقط كما أورده الشيخ المفيد وروى عنه المجلسي في (البحار)، وقد نفذ وصية الزهراء بان يتزوج من أمامة بنت زينب شقيقتها. علماً ان أمامة هذه واكبت أمير المؤمنين في حياته على جانب أم البنين (رضوان الله عليها)، وجاء في (سفينة البحار) ج1 ص35: لما جرح أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ان يتزوج أمامة بعده، فلما توفى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقضت العدة، تزوجها المغيرة فولدت له يحيى وبه كان يكنى، وتوفيت عنده.
ولم تكن فاطمة الكلابية (أم البنين) بالفتاة التي تجهل الناس وسيرهم، فكانت على معرفة بأمير المؤمنين عندما بلغها نبأ اختيارها من قبل شقيقه عقيل المعروف بسعة اطلاعه على انساب العرب. فقد كان عليه السلام الزوج المثالي والنموذجي في الاسلام، يقول سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس سره) في كراس له عن حياة أم البنين، بان الاسلام وضع أهم فقرة في قانون الأسرة بان تسير الزوجة الى جنب زوجها في الحياة، فلا يتجاوز أحدهما الاخر، وبذلك تتحقق السعادة الزوجية. يضيف سماحته عن مدرسة أمير المؤمنين بان الزهراء سلام الله عليها كانت تعمل لإدارة البيت – رغم المشاق الموجودة آنذاك- من الكنس والسقي، وخياطة الثياب، واعداد الخبز، فيما تكفل علي عليه السلام بتوفير الحطب وجلب الطعام.
في هذا البيت، لا ضغوط من أحد على آخر، ولا استفزازات ولا مناقشات ولا ملاسنات حول هذا الشيء أو ذاك، إنما الاحترام المتبادل والعطف والحنان والتضحية، لذا عندما حلّت أم البنين في دار الامام عليه السلام، وفي أول ليلة لها، سألها إن كانت تطلب شيئاً منه، فقالت: ليس أي طلب، إنما هو طلب واحد، فقال عليه السلام: وما هو. ..؟ فقال أن تحجم عن تسميتي بـ (فاطمة) أمام الحسنين وزينب، لئلا يهيج عليهما ذكر والدتهما. فاستجاب الامام عليه السلام لطلبها واطلق عليها اسم (أم البنين).
من هنا يقول المرجع الراحل عن السيدة أم البنين سلام الله عليها بانها (كانت مدرسة في مختلف أبعاد الحياة كما يظهر من التاريخ - على قلة ما ورد عنها وعدم استيعابه).
زواج الكفؤ
نعرف ان أمير المؤمنين عليه السلام كان كفواً لفاطمة سلام الله عليها كما كانت فاطمة عليها السلام كفواً لعلي عليه السلام، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: (لولا أن الله خلق أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن لفاطمة كفؤ على وجه الأرض آدم فمن دونه). وهذا يدلنا على ان الامام عليه السلام، إنما تزوج من فاطمة الكلابية لعلمه واطمأنانه بانها حقاً كفوءٌ له، وقبل ذلك فعل بتنفيذه وصية الزهراء عليها السلام بالزواج من أمامة حفيدة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، رغم إنه كان بينها وبين الإمام عليه السلام بون شاسع في العمر – حسب الرويات-.
وهكذا كانت أم البنين سلام الله عليها، التي يقول عنها المرجع الشيرازي الراحل انه (لها من الفضل والرفعة المعنوية ما لا يسعنا علمه، وإن كانت دون المعصوم (عليه السلام) وحتى دون من لهم العصمة الصغرى كالسيدة زينب والسيدة المعصومة والسيدة نرجس (عليهنَّ الصلاة والسلام). وهذه مسألة مهمة أخرى تضاف الى ما قراءتنا لحياة هذه السيدة العظيمة التي لولا هذا الكفء لما أنجبت أبطالاً و رموزاً مثل أبي الفضل العباس عليه السلام، الذي طالما أكد الأئمة المعصومون ابتداءً من الحسن والحسين ومن بعدهما عليهم السلام، على منزلته و مكانته في الاسلام.
لقد اجتمع في فاطمة الكلابية النسب الأصيل والشرف الرفيع مع الأدب والكمال في التربية، وهذا درسٌ لنا ايضاً، بان لا يقتصر الاختيار للزواج على صفة الجمال او المال او الحسب والنسب، إنما ان تتصدر القائمة الصفات الاخلاقية والسلوك الحسن الذي تتخذه الفتاة في حياتها، فكل شيء زائل سوى الخصال والصفات التي تلازم الانسان طيلة حياته. لذا فان ذلك الطلب من الامام علي عليه السلام وفي ليلة زفافها، كان له امتداد طويل بلغ اليوم الذي دخل فيه الشاعر بشر بن حذلم لينعى الامام الحسين عليه السلام لأهل المدينة، وفي تلك القصة المعروفة، فقد غاب عن ذهنها ان لها اربعة أولاد كأنهم أشبال الاسود، فاقتحمت الناس المتجمعين وكانت طاعنة في السن، وسألت بكل لهفة عن الحسين فقط لا غير، وما حلّ به.
جزاء الوفاء في كربلاء وفي المدينة
لقد أعطى الله تعالى الكرامة والمنزلة العظيمة لأبي الفضل العباس سلام الله عليه جزاءً لوفائه العظيم وموقفه التاريخي الكبير في واقعة الطف ونصرة الحق حتى الرمق الاخير والتضحية بكل ما يملك من يد ولسان وعين في سبيل الله، ونفس هذه الكرامة أعطيت لوالدته أم البنين رضوان الله عليها لقاء موقفها العجيب حقاً والذي ربما يُعد مثالياً لكل إمرأة تسمع به، لكنه إنموذج حيّ ينبض امامنا، والدليل أوضح من أن يقال، لشدة العلاقة بين المؤمنين والمؤمنات من ابناء مجتمعنا الاسلامي بهذه السيدة الجليلة، فان لم نجد ما يعزز لدينا المعرفة بشخصيتها من خلال صفحات التاريخ، فان تحقق الكرامات العظيمة بجاهها عند الله لهو خير دليل وبرهان على مكانتها ومنزلتها عند الله تعالى.
من هنا تقف أم البنين الى جانب ولدها العباس سلام الله عليهما بيننا وبين الله تعالى كوسيلة للشفاعة واستجابة الدعاء وطلب الحاجات وحل المعضلات المستحيلة من قبيل شفاء الامراض والانجاب وابعاد شبح الخوف ورد المكائد وغير ذلك كثير، لذا حريّ بنا ان نحييّ دائماً ذكر هذه السيدة العظيمة في احياء ذكرها ليس فقط في المجالس الحسينية إنما في التعريف بشخصيتها للفتيات والنسوة، فقد كانت أم البنين فتاة عادية كسائر الفتيات في المدينة آنذاك، ولم تكن معصومة او قريبة للمعصوم، إنما تلقت الأدب والحلم والخصال الحميدة من أسرتها فكانت ان وفقت للاقتران بأمير المؤمنين وتصل الى هذه المنزلة العظيمة. الى جانب ذلك الاستمرار في النذر اليها قربة الى الله و زيارتها وإهداء قراءة القرآن والصلاة وسائر المقرّبات لها.
وفاتها الغامضة
يشكك سماحة المرجع الشيرازي الراحل في دراسته حياة أم البنين بموتها بشكل طبيعي، لما اطلع عليه من كثرة المؤامرات والدسائس على الأئمة الاطهار وابنائهم واتباعهم، فقد تم اغتيال العديد منهم بدسّ السمّ اليهم، يقول سماحته: (لا نعلم شيئاً عن سبب وفاة السيدة أم البنين عليها السلام، علماً أنها كانت تفضح بني أمية بعد قتلهم الإمام الحسين عليه السلام).
وكانت وفاة أم البنين في الثالث عشر من جمادى الآخر سنة 64 للهجرة ودفنت في المدينة المنورة رضوان الله عليها.
|
|