مناسبات

ماذا نأخذ من زيارة يوم الأربعين لسائر أيام السنة؟

أكدت الدراسات والبحوث في أمر الشعائر الحسينية، ومنها؛ السير على الاقدام لزيارة الامام الحسين في أربعينه، أنها ليست من الطقوس المتضمنة عادات وتقاليد موروثة من …

أكدت الدراسات والبحوث في أمر الشعائر الحسينية، ومنها؛ السير على الاقدام لزيارة الامام الحسين في أربعينه، أنها ليست من الطقوس المتضمنة عادات وتقاليد موروثة من صنع المجتمع، وأن الناس يقومون بهذه الطقوس إنما يقومون بها وهم في حالة “لا وعي”، تحركهم بواعث نفسية محكومة بالزمان والمكان ومؤثرات عاطفية معينة، إنما هي ممارسات واعية –وإن بدرجات- وبدوافع واضحة ومحددة، كون هذه الشعائر مرتبطة بالدين والعقيدة، كما هي سائر الشعائر الدينية التي ذكرها القرآن الكريم، وهو ما أكده ايضاً؛ الأئمة المعصومون فيما يتعلق بإحياء قضية الامام الحسين، عليه السلام، من إظهار الجزع عليه بمختلف الاشكال.
نعم؛ البكاء على مصاب الامام الحسين، عليه السلام، له ثواب جزيل عند الله –تعالى- وأنه يمحي الذنوب ويغفر لصاحبه، كما له دور مؤثر ومشهود على الصعيد النفسي، وانه يعالج مشاكل نفسية عدّة مثل قسوة القلب، والكراهية، والتكبّر، كل هذا صحيح، والصحيح ايضاً؛ المردود الايجابي الكبير على الصعيد الاجتماعي ايضاً؛ فالحسين، عليه السلام، لا يخاطب فرداً، أو مجموعة افراد، بقدر ما يخاطب أمة كاملة، كما جاء في إعلانه الشهير “…لطلب الإصلاح في أمة جدّي”.
ولا يختلف اليوم اثنان بين جموع الملايين من زائري الاربعين، ما خلقه العراقيون من مشاهد العطاء والتضحية والايثار، وهم في طريق المشي الى كربلاء المقدسة، أو هم على الطريق يقدمون مختلف اشكال المساعدة والخدمة للزائرين من مختلف انحاء العالم، وهم بذلك تحولوا الى مثال بارز للجميع في الخصال الحسنة التي اكتسبوها من الثقافة الحسينية.
ولكن! هل ينتهي كل هذا خلال أيام الزيارة الاربعينية؟
اذا اخذنا كل هذه المعطيات بنظر الاعتبار؛ من الدوافع الواعية، والتغيير الذاتي للنفس الانسانية، ثم انعكاس التجربة العراقية على سائر شعوب العالم، ربما حتى غير المسلمة، من غير المعقول أن تختصر كل هذه في أيام معدودة، ثم ينتهي كل شيء بعد انقضاء شهر صفر، ويعود الناس لما كانوا عليه من السلوك والاخلاق والتعامل البيني، كأن شيئاً لم يكن.
من أبرز المشاكل النفسية التي تهدد العلاقات الاجتماعية بين افراد المجتمع والامة بشكل عام؛ حب الأنا في كل شيء؛ المال، والمنصب، وفرصة العمل، بل حتى بقعة الارض التي يقف عليها احياناً البعض في مكان ما، فيصعب عليه التحرك ليفسح المجال لأخيه، او أن يتأخر هو ليتقدم أخيه بالدخول في أي مكان ما.
هذه المشكلة النفسية لا نجد لها أثراً خلال أيام الزيارة، إنما نجد العكس تماماً، حيث الإيثار ونكران الذات بأروع صورها، وهذا يفيدنا لسائر أيام السنة، عندما نعود الى البيوت وتعود العلاقات بين الجيران، ونعود الى مقاعد الدراسة، ويعود الموظف الى دائرته الحكومية، ورجل الأمن الى واجبه، والكاسب الى محله التجاري وهكذا القائمة تطول.
لو راجعنا أحد أبرز محطات النهضة الحسينية، نجد الإيثار بأروع صورة وأكثرها ندرة في التاريخ والانسانية، عندما واجه الامام الحسين، عليه السلام، وقافلته، الحر بن يزيد الرياحي وهو على قوة عسكرية من ألف فارس، كانت مهمته منع الإمام من التوجه الى الكوفة وإبقائه في صحراء كربلاء لحين وصول جيش عمر بن سعد، والامام يعلم علم اليقين أنه مقتول مع اصحابه وابنائه في معركة غير متكافئة، و أي قائد عسكري لاشكّ انه يستعد لذلك بكل ما أوتي، ويفكر أولاً؛ بالمؤن، لاسيما الماء ليضمن فترة أطول من المقاومة ومواجهة العدو، وحتى لا يبقى معسكره، بمن فيه من نساء وأطفال من دون ماء في ظهيرة ذلك اليوم القائض.
ولكن؛ الامام الحسين له منهج آخر في التفكير، فهو ينطلق من معايير حضارية وانسانية، وليست مادية وقتية، ولذا نجده يأمر بسقي أفراد الحر رغم عددهم الكبير، بل ولم يكتف بذلك، عليه السلام، فأمر بسقي الخيل ايضاً! فهل فعل ذلك ليعاني هو وجنده وأطفاله ونسائه العطش المريع، ويكون ذلك المشهد المؤلم للطفل الرضيع؟!
حاشا الإمام الحسين عن ذلك علواً كبيراً، فهو الإمام الرؤوف والعطوف، وهو الصورة الناصعة للرحمة الإلهية في الأرض، إنما اراد ذلك ان يكون درساً للاجيال والبشرية بأن الدنيا لا تساوي شيئاً أمام حاجة انسان اذا طلب أي شيء، لاسيما اذا كان محتاجاً اليه في لحظة ما، فكما هو لبّى حاجة انسان مسلم (الحر) فان على المسلم الآخر ان يفعل الشيء نفسه، وهذا هو الاختبار العسير على طول الزمن.
البعض يتصور أنه لو منع المال، والطعام، او العلم، أو النصيحة المفيدة لنفسه، سيكون أسبق من غيره في امتلاك البيت الفخم، والسيارة الفارهة، وفرصة العمل المرمومة، او حتى الشهادة الجامعية والنجاح في الدراسة، بينما علماء الاخلاق أكدوا اليوم أن السعادة لن تدوم لأحد ما لم تسود في المحيط الذي يعيش فيه، وإلا فان كل عوامل هذه السعادة التي يفترضها لنفسه، ستتحول وبالاً عليه عندما يتعرض للمضايقات والنظرات الخطيرة ممن يجدون أن بؤسهم وشقائهم بسبب رفاهية هذا الانسان، أو على الاقل يتسائلون بشكل عفوي أن؛ لماذا هو وليس نحن؟!
إن بركات الامام الحسين، عليه السلام، ليس فقط في أيام الاربعين، والزيارات المليونية الاخرى التي يشهد فيها العالم بأسره المظاهر الانسانية والاخلاقية، إنما هي لسائر ايام السنة لمن حقّاً وحقيقة بالنهضة الحسينية وما تتضمنه من مبادئ وقيم ضحى من أجلها الامام الحسين، وابناؤه واصحابه.

عن المؤلف

جلال عبد الأمير

اترك تعليقا