ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (41) هل نحصل على الثراء من العقل؟

قال أمير المؤمنين، لولده الإمام الحسن، عليهما السلام: ” يا بني احفظ عنى أربعا وأربعا لا يضرك ما عملت معهن؛ إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق يا بني إياك ومصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة البخيل، فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافة، وإياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب”.

في هذه الوصية الجامعة للإمام الحسن يبيّن والده أمير المؤمنين، ثمانية أمور؛ أربعة ترتبط بالانسان بينه وبين نفسه، وأربعة في علاقات الانسان الخارجية مع أربعة انواع من الناس.

الأربعة الاولى: “يا بني احفظ عنى أربعا وأربعا لا يضرك ما عملت معهن” أي إن حفظت هذه  الامور الثمانية لن تتضر في هذه الحياة الدنيا “إن اغنى الغنى العقل” إن كنت تبحث عن الغنى فإن مصدره في الانسان نفسه، هذه الكلمة القصيرة اعمق من أي كلمة أخرى في هذه الحياة.

🔺 في داخل الانسان كفاءات تبتدئ ولا تنتهي ومصدرها العقل، والمقصود هنا ليس العقل بما هو، وإنما التعقل واستعمال العقل واستثارته

ذلك أن في داخل الانسان كفاءات تبتدئ ولا تنتهي ومصدرها العقل، والمقصود هنا ليس العقل بما هو، وإنما التعقل واستعمال العقل واستثارته، ولذلك فإن أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الكلمة يتحدث كناصح لولده الإمام الحسن، عليه السلام، لا مبين لحقيقة موجودة في الانسان.

فالعقل والتدبر والتفكير هي المقصود من هذه الكلمة وهي رأس المال الذي تجعل الانسان غنيا دائما، وهناك نوعان من الناس في هذه الحياة؛ النوع الأول: الذين عطّلوا عقولهم، فبدأوا يفكرون بأعضائهم، فبدل أن يشغل عقله يشّغل يده، ذلك الانسان الذي تعلم الحمالة فأصبح حمّالا في المجتمع عطل رأس مالٍ حقيقي في هذه الحياة.

وذلك الانسان الذي يرضى ان يبقى في هذه الحياة خادما طول عمره، يكون قد عطّل شيئا رئيسيا في نفسه وهو العقل، وذلك الذي نجح في الحياة إنما باستعماله للعقل؛ أي بتعقله وتفكره وتدبره.

وحينما ننظر الى المجتمع نرى ان الناس الذي يستعملون عقولهم أغنى من الذين يستعملون اعضاءهم واجسامهم؛ المهندس قيمته أكثر من البنّاء، والأخير أعلى من العامل، لان البنّاء أكثر عقلا وتدبرا من العامل، والمهندس أكثر منهما، والمجتمع ــ شئنا ام أبينا ــ مصنف ضمن العقل، وقيمة كل انسان بمقدار ما عنده من تعقل وتدبر وتفكر.

في داخل الانسان كفاءات وحين تواجهه مشكلة قد يحملها على كتفه وتذهب الى أناس كي يحلوها له، وقد يتعمق في داخله ويستخرج كفاءاته، هنالك حكمة في بعض اللغات الاجنبية: (حينما تواجه مشكلةً فاسأل عن حلها أنت) فلماذا يذهب الانسان الى هنا وهناك، حينما تواجه مشكلة فالطريق الى الحل ان يُعمِل الانسان عقله؛ بالتفكير والتدبر (الحاجة أم الاختراع) وهنا قيمة الرجال الذين يفكرون بعقولهم لا بأعصابهم واعضائهم، فيحنما يتواجهون مشكلة يقفزون عليها، وحاولوا حلّها بعقولهم، ولذا تجد أنهم المكتشفون والمخترعون في هذه الحياة.

ولامير المؤمنين، عليه السلام، كلمة في حِكمة بعثة الانبياء: “ليذكروهم منسي نعمته وليثيروا لهم دفائن العقول” عقل الانسان مدفون تحت العادات الاجتماعية السيئة، ومدفون تحت الرغبات والشهوات الباطلة، وحين يستخرج الانسان عقله سرعان ما يكتشف ان داخله كفاءات وامكانيات.

🔺 الذين غيّروا التاريخ لم يمتلكوا اعضاء اكثر من غيرهم، ولا كانت أدمغتهم أكبر من الآخرين، والأولية التي بها ولدوا في هذه الدنيا لا تختلف عن كفاءات الآخرين، وإنما امتازوا بعقولهم وإرادتهم، والإرادة أيضا تأتي من العقل

وحين نرجع الى مصادر الاكتشاف والاختراع عند الانسان نجدها مشكلة، وبدل ان يحمل المشكلة الى شيء خارجي، حملها الى شيء داخلي؛ الى تفكره وتدبره، وتعقله.

والذين غيّروا التاريخ لم يمتلكوا اعضاء اكثر من غيرهم، ولا كان أدمغتهم أكبر من الآخرين، والأولية التي بها ولدوا في هذه الدنيا لا تختلف عن كفاءات الآخرين، وإنما امتازوا بعقولهم وإرادتهم، والإرادة أيضا تأتي من العقل.

الحياة قائمة على العقل وليست فقط اعطاء المجتمعات قيمة للعقل، لان العقل حق، وإن وقع صراع بين مجتمع عاقل، ومجتمع لا يثير عقله ولا يستخدمه، فلا شك أن المجتمع المتعقل ينتصر على المجتمع الاحمق إذا جعلنا العقل في مقابل الحمق.

  • قيمة العقل في الاسلام

و فلسفة الاسلام وهي فلسفة الحياة، لان الاسلام هو الجانب التشريعي والرؤيوي لما خلق، وهذه الفلسفة قائمة على العقل، فالاسلام يرى ان الكون مثل بيت مظلَم يحتاج فيه الى سراج ليرى كل شيء فيه، و يتجنب الوقوع في اي منزلق، وعقل الانسان هو سراجه في هذا الكون، فإن عطّل الانسان هذا السراج ضاع في هذه الحياة وهلك، عن عن الباقر، عليه السلام، قال: “لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا اكملك إلا فيمن أحب أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب”.

🔺 يعد الاسلام الثواب بمقدار العقل؛ فقيمة الصلاة بمقدار ما تعطيك تعقّلا وتدبرا في هذه الحياة، بالاضافة الى انها تهب التقوى للفرد

ولذلك يعد الاسلام الثواب بمقدار العقل؛ فقيمة الصلاة بمقدار ما تعطيك تعقّلا وتدبرا في هذه الحياة، بالاضافة الى انها تهب التقوى للفرد، والتقوى نتاج العقل وليست نتاج الجهل، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): فلان من عبادته ودينه وفضله كذا وكذا. قال: فقال: كيف عقله؟ فقلت: لا أدري. فقال: إن الثواب على قدر العقل.

و قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما قسم الله للعباد شيئا ” أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ولا بعث الله نبيا  ولا رسولا  حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبي صلى الله عليه وآله في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب، الذين قال الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}.


  • (مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا