أدب

رحلة مصوّر

اطرق يفكر عن رحلته القادمة! أ تكون من اختياره، أم تراها تُساق اليه على نحو من …

اطرق يفكر عن رحلته القادمة! أ تكون من اختياره، أم تراها تُساق اليه على نحو من الصدفة.
صمتت افكاره لوهلة مُغمضٌ عينيه، غارقاً في بحر من السكون حتى صَمّمَ اخيراً على سفر قد حطَّ عند فكره، فاستولى عليه، و ربما كان هذا الاستيلاء المباغت والتصميم المفاجئ لأهمية ما نوى عليه قبل قليل.
ثم بادر بالحديث مع آلة التصوير الخاصة به:
• استعدِّ فلدينا رحلة جديدة؛ فواجبك توثيق الامور التي لا يُراد منها أن تُعلن الى العالم، بل وبعبارة اخرى واجبنا معاً.
الصادقون يلتمسون الحقيقة، أما المخادعون فيجيدون التمثيل، فنراهم يوصدون عليها الابواب، وفي النهاية تظهر جليا وبصورة واضحة كالشمس على الفلاة .
أنهى كلامه ثم وثب قاصدا حقيبة ظهره التي عادة ما رافقته في تلك الرحلات.
تمشّى بضع خطوات نحو النافذة فقام بفتح المزلاج بينما أمسك بكاميرته بيده الاخرى، ثم القى بطرفه الى السماء متأملاً إياها بنظرة طويلة تاركاً العالم أجمع، وملقاً بهمته نحو وظيفته ومهمته التالية.
طالما شبّه السماء بآلة التصوير التي تلتقط بعدستها حوادث الدهر الغابر وتخزن في ذاكرتها كمّا كثيرا من الصور التي حفظتها كوالدة تصون اطفالها ليتذكر الاجيال حوادث مهمة جرت في صفحات التاريخ .
وبينما هو في ذلك العالم المليئ بالصور التاريخية، أخذت السماء تكتسي بزرقة لامعة و أشعة صفراء تكاد تكتسح باشراقتها عالم الوجود فتضيء عتمات الدروب وظلام البيوت وحتى القلوب الماثلة في الصدور.
ابتسمَ من دون إرادة وهو يشعر ببعض المرح من ذلك المظهر المهيب، بل ان هناك شعور بالانتصار يكاد يستولي عليه، و ربما كان تاريخ اليوم الثامن عشر من ذي الحجة السبب الرئيسي لهذا الشعور ولهذه السعادة.
تقهقر الى الوراء وكأنه يحاول ان يتذكر شيئا ما فأشار باصبعه على الحقيبة، فلم يلبث ان ابتسم واضعا اياها على المنضدة مخرجاً منها عدة تنظيف الكاميرا. وكان اول ما اخرج من تلك العدة، المنفاخ المُصمم لتنظيف العدسة من الغبار اذا ما تراكم عليها، وبعد هذه الخطوة قام بمسحها بقطعة قماش قطنية وهو يقول:
• ان وجود أي شعرة ولو كانت صغيرة سيسبب لاحقاً بإتلاف الصورة الملتقطة، و هدفي ان تكون صوري على درجة كبيرة من الدقّة، ولاسيما ان رحلتي ستكون بريّة.
ثم انه كان حريصاً في وضع عدسة ثانوية على العدسة الاصلية لضمان سلامتها من أية خدوش.
فكّر ثانية فيما اذا كان ينقصه شيء، وبخطوات حثيثة انتقلت اقدامه حيث الخزانة مستخرجاً منها بعض العدسات الإضافية التي تساعده في عملية التصوير؛ كالعدسة ذات التصوير الواسع التي تأخذ أفق أوسع، و ايضا تلك التي بوسعها ان تعطي سعة أكبر لحجم الصورة، وتأخذ مديات اضافية…الخ .
وبعد ذلك أخذ من الخزانة نفسها القاعدة الأرضية أو ما يُسمى “استان” وهو عبارة عن اعمدة ثلاثة موصولة ببعضها يعلوها رأس وذراع تدوير، مهمتها تثبيت الكاميرا وكسب التوازن لكي تجتنب الاهتزاز.
لقد ملأ حقيبته بكل ما يحتاجه من أدوات لتلك الرحلة. و آخر خطوة كانت في فتح الخارطة على المنضدة:
• سأترك الزمام للعدسة في هذه الرحلة الضوئية التي تعيدنا الى حوالي أربعة عشر قرناً من الزمن. بدأت خارطة العالم تومض باشارة حمراء وهي تحدد الموقع الذي ستجري فيه هذه الرحلة!
• أوه؛ حسنا يبدو انها ارض الجحفة. جميل بدأت الآلة تباشر عملها.
ها هم المسلمون مجتمعون لملاقاة رسول السماء و التشرّف بأداء مناسك الحج معه. بيد انه كان ينتظر قدوم حبيبه، علي بعد إرساله الى بلاد اليمن لنشر الرسالة الالهية هناك.
لم ينتظر طويلاً حتى لاح في الافق حشد الفرسان وهم يتسابقون مع الريح لادراك ذلك الشرف. كانت جيادهم تدك الارض بصوت شبيه بقرع الطبول، وكل دكة تمثل خفقة لذلك القلب المؤمن الذي سارع للقدوم والاستباق للعمل.
وصلوا الى ذات الموضع فترجّل عليٌ من فرسه والبسمة تزدان بوجهه حتى توّرد سعيدا لاستقبال الرسول اليه.
تحرك الموكب الكبير بقيادة النبي الأكرم، وفيه عشرات الالاف من المسلمين قاصدين أم القرى حتى اذا وصلوا علّت اصواتهم في الكعبة بنداء: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.. ان الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
انتهت المراسم العبادية، و قفلوا راجعين الى ديارهم بيد ان مخططاً الهياً كان في طريقهم، فوصلوا الى أرض سهلة منبسطة في شمالها الغربي غدير ماء يحيطه أجمة من شجر الطلح، تتناثر في ارضه الرحبة اشجار السمر الملتوية. ويبدو ان الذي عدلهم عن مقصد رجوعهم تلك الجملة التي ترددت على ثغر الطُهر وهو يقول: “ايها الناس أوشك ان أدعى فأجيب…”
وبعد ان خاطبه الوحي جبريل بلهجة جدّية حازمة غير معهودة من قبل، وهو ينقل له آية من الملكوت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
توقف الجمع بعد ان صعد الرسول على رحل الابل ينوي الخطاب فخفقت القلوب خفقانا شديدا، وتسمرت العيون صوب النبي، فالعلامات والقراءن ترجح وقوع أمر عظيم يكون ختام للرسالة المحمدية في تلك الحَجّة الاخيرة.
أطبقت الافواه، وحل السكون حتى قام النبي سائلاً إياهم:
-أ لستُ أولى بالمسلمين من أنفسهم؟
فهتفوا مجيبين:
-بلى يارسول الله !
وبعد الاجابة القاطعة، أخذ النبي بيد علي ماضياً يقول:
-من كُنت مولاه فهذا عليٌ مولاه. اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه”
حينها أشرقت شمس الولاية، وشقّ سقف السماء، وهو يعتلي بآية الاتمام والرضا:
-“اليوم اكملتُ لكم دينكم، واتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكُم الاسلام دينا”.
سُعِدَ الجمع الغفير وطربوا جَذلين، و عَلت زغاريد النساء، وطفقوا دفعات دفعات يهنئون علياً ويبايعونه على الولاية من بعد النبي الأكرم، حتى من لم يرض قلبه بتلك المنزلة التي لم يحظّ أحد بمثلها، فقام قائلاً للامير:
-بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب! أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
هنا تمت رحلة بطلنا فكبس على زر الايقاف ثم أخذ يخلع نظارته بعد ان برقت عيناه معلنة إسبال دموع الفرح والسعادة متأمّلاً شريحة ذاكرة التصوير بنظرات منتصرة وهو يقول:
– سأبث ما فيك لينتشر الخبر ويحلّ في ارجاء المعمورة وخارجها.

عن المؤلف

آمنة الطائي

اترك تعليقا