مناسبات

مَسِيرَةُ الأَربَعِين مَسِيرَةُ عِشْقٍ وَدِينٍ

  • مقدمة

العالم شاخص ببصره، وينظر إلى هذا السَّيل الأسود من البشر ينطلق من كل الاتجاهات ولكن جهته واحدة وقصده واحد، فهو نهر من البشر بكل أطيافهم وأعمارهم، وأجناسهم، انطقوا من البيوت وخلَّفوا كل شيء وراء ظهورهم وتوجَّهوا إلى مَنْ أعطى كل شيء لربه من أجلهم: “وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ حَتَّى اسْتَنْقَذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ”.

فما هو السِّر في هذا الإقبال، وهذا التفاني، وهذا التعب في المسير مئات الكيلو مترات، من أقاصي الجنوب العراقي، ومن كل نواحيه واتجاهاته، وليس العراق فقط بل التوق والشوق إلى هذه المسيرة من كل أحرار العالم والمتشوِّقين إلى العزة والكرامة، والمتطلعين للمعرفة والحقيقة صاروا يتطلعون وينتظرون أيام صفر الحزان حتى يبدؤوا يعدُّوا العدَّة ويشدُّوا الرِّحال إلى مهوى القلوب والأرواح، وكعبة الأحرار في العالم الإمام الحسين.

⭐ فما هو السرُّ في هذه القضية التي خرجت من نطاقها، وثوبها المذهبي، ولبست ثوباً كونياً وعالمياً!

فما هو السرُّ في هذه القضية التي خرجت من نطاقها، وثوبها المذهبي، ولبست ثوباً كونياً وعالمياً، وصارت حديث الناس والساسة وأهل الفكر والذوق والأدب في كل بلد صاروا يتحدثون عن الحسين، عليه السلام، والمسيرة إلى كربلاء بغاية المشاركة في المسيرة العملاقة التي تبدأ وتهفوا القلوب إليها، وتتحسَّر البشر ممَنْ لم يناله الحظ للمشاركة فيها؟

  • سرُّ المسيرة الحسينية

والسِّرُّ في مسيرة الأربعين أنها مسيرة إلهية، بكل ما فيها من تخطيط، وتنفيذ، فكلها لله ومن الله وإلى الله، بدأت بمشيئته تعالى، “شاء الله أن يراني قتيلاً”، وانتهت بإرادته أن يكون ذاك الإمام العظيم الحسين بن علي، عليه السلام، حفيد رسول الله الأعظم، صلى الله عليه وآله، شهيداً للبغي والطغيان، وشاهداً على التخاذل والخيانة والانبطاح المذل للأمة تحت أقدام السلطان الجائر، فقام قومته الإلهية، ونهض بتلك النهضة الرسالية ليُعلِّم البشرية دروس العزة والكرامة والقيمة والإنسانية.

ولذا مَنْ لم يستطع أن يقرأ هذه المسيرة المباركة بهذه القراءة لم ولن يستطيع أن يفهمها على حقيقتها، فسيُخطئ في قراءتها والنَّظر إليها مهما كان عملاق الفكر، ورفيع الرأي، والقصور راجع إليه لأنها أعظم من أن يُحاط بها بفكر لا يؤمن بها، أو لا يعتقد بإمامة، وولاية منفِّذها الإمام الحسين بن علي، عليه السلام، سيد الشهداء، عليه السلام.

فهي تحتاج إلى إيمان بالله تعالى وتوحيده لأن التوحيد أساس القيم، ومحور الفضائل، وبعده يأتي الإيمان برسول الله، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الأطهار، عليه السلام، الذين جعلهم الله أساس الدِّين، ومحبَّتهم ومودتهم أجر الرِّسالة الخاتمة، في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. (الشورى: 23).

فمسألة المسيرة الحسينية المباركة في الأربعين هي من صلب هذا الدِّين الحنيف، ومن أساساته القويمة التي توصل الإنسان إلى رضا الله، وتُسدِّده، وتقوِّمه في مسيرته في هذه الحياة الدنيا، لأن المزالق كثيرة، وأشراك الشيطان وهوى النفس كثيرة جداً، ولا يتخلَّص منها الإنسان إلا بمجاهدة وتوفيق من رب العالمين، والتوسل إلى الله بوسيلته المُثلى، والتمسك بعروته الوثقى، والركوب في سفينة النجاة التي حددها الحديث النبوي المشهور ووصيته لأبي ذر الغفاري: “واعلم يا أبا ذر أن الله عز وجل جعل أهل بيتي في امتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن رغب عنها غرق، ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله كان آمنا”. (بحار الأنوار: ج 74 ص75).

وفي الحديث الرَّضوي الشريف؛ قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “مَنْ أحب أن يركب سفينة النجاة، ويستمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين فليوالِ علياً بعدي، وليعادِ عدوه، وليأتم بالهُداة من ولده، فإنهم خلفائي، وأوصيائي، وحجج الله على الخلق بعدي، وسادة أمتي، وقادة الأتقياء إلى الجنة، حزبهم حزبي، وحزبي حزب الله عز وجل، وحزب أعدائهم حزب الشيطان”. (عيون الأخبار: 161).

هذا بيان رسول الله، صلى الله عليه وآله، الواضح، وقوله الناصح لكل مَنْ أراد الفوز بدار القرار، والنجاة من النار فعليه أن يركب سفينة النجاة، ولا سيما ما يرويه الشيخ المجلسي في بحاره، قال الإمام الصادق، عليه السلام،: “كلنا سفن النجاة ولكن سفينة جدي الحسين أوسع وفي لجج البحار أسرع”. (بحار الأنوار: ج 26، ص 322).

هذا الحديث رغم ما يُحيط فيه من أقوال، ونسبته إلى العلامة التستري، إلا أن علائم الحق واضحة عليه وذلك لأن سفينة الإمام الحسين، عليه السلام، هي سفينة الجهاد، والقيادة، والشهادة، والخدمة لأولياء الله، والإمام الحسين، عليه السلام، هو الباب الواسع الذي يُنقذ الأمة في كل مِحنِها وعثراتها وكبواتها فلولا الإمام الحسين، عليه السلام، لذهب الدِّين، ولصار مثل المسيحية مجرد طقوس في يوم الجمعة في المسجد، وربما جعلوا المسجد كالكنيسة تماماً وهذا الواقع يشهد على ذلك.

  •  مسيرة الأربعين هي مسيرة الدِّين

فالمتأمل في هذه المسيرة المباركة، ومجرياتها وتعاظمها يجدها أنها ليست مجرَّد مسير إلى الإمام الحسين، عليه السلام، سيد الشهداء، وعظيم العظماء، ولكنها في الحق والحقيقة أنها مسيرة إلى الدِّين الحق، وعودة حميدة إلى رب العالمين، فهي ليست خُطوات ونقل أقدام بل هي بَيعة لله على نُصرة دينه ووليه، واستجابة لاستغاثة ذاك الإمام المظلوم التي انطلقت من عمق الزمن والتاريخ كصرخة جده إبراهيم الخليل حيث أمره الله تعالى أن يُؤذِّن في الناس بالحج، فقال: يا رب ما مبلغ صوتي في هذا الوادي المقفر، والصحراء القاحلة؟

فجاءه النداء من السماء: (عليك النداء والدعوة وعلينا البلاغ)، فأوصل الباري النداء إلى مَنْ في الأصلاب، والأرحام فلبُّوا النداء من عالم الذر، وتمثَّل ذلك في عالم الحياة والواقع بالحج إلى البيت الحرام والتلبية لنداء أبينا إبراهيم الخليل، عليه السلام،.

⭐ المسير إلى الإمام الحسين، عليه السلام، هو مسير دنيوي مثقل بالخطايا والذنوب والآثام، إلى ذاك البحر الطمطام، الذاخر بالخيرات والبركات ليتطهروا من ذنوبهم

وهكذا نحن مع نداء الإمام الحسين، عليه السلام، وصرخته المدوية في صحراء كربلاء: “ألا من ناصر ينصرنا، ألا من ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله”. فجئنا ملبِّين النداء وسرنا إليه ساعين لأنه سار مئات الكيلو مترات إلى أن وصل إلى كربلاء، ثم عياله وثقل النبوة والمخدرات التي سُبين وتنقَّلنَ من منزل إلى منزل حتى وصلنَ إلى الطاغية يزيد في الشام ولما خيَّرهنَّ قالوا: نريد الحسين، عليه السلام، فجاؤوا ووصلوا إليه في الأربعين بقيادة ولده البار الأمين زين العابدين، عليه السلام.

المسير إلى الإمام الحسين، عليه السلام، هو مسير دنيوي مثقل بالخطايا والذنوب والآثام، إلى ذاك البحر الطمطام، الذاخر بالخيرات والبركات ليتطهروا من ذنوبهم، ويُخففوا من أثقالهم، وهذا ما بيَّنه سماحة المرجع الديني السيد المدرسي (حفظه الله) في ندائه الأخير بمناسبة زيارة الأربعين حيث قال: “وهكذا هو الحال في زيارة الأربعين العظيمة، وأن الناس الذين يدخلون في هذا البحر الطاهر، المطهّر العظيم في كل عام فإنهم يخرجون بعقيدة وإيمان أكثر رسوخاً ووعي وبصيرة وزاد أعظم يعينهم على صياغة وبناء شخصياتهم بشكل لا يمكن أن توفر بيئته، أو أرضيته الخصبة سوى مثل مشاهد الزيارة الأربعينية العظيمة”.

هذا حال المؤمنين أما حال الكافرين بها والمشككين بمضامينها الذين يحاولون في كل عام مع الطغاة أن يُبعدوا الناس عن الحسين، عليه السلام، ومسيرته في الأربعين، إلا أنهم ما أن تأتي أيامها المباركة حتى ترى إنقلاب في الموازين، وتغيير في كل الحسابات، وذلك لأنهم من الشياطين الذين ما فقهوا معنى الحسين، عليه السلام، ونهضته، ومسيرة الأربعين، فيعودوا بخُفي حُنين وتتألق الحياة بمسيرة الأربعين، لأنها رسالة الله رب العالمين.

يقول سماحة السيد المرجع المدرسي في بيانه:  “وهكذا ترون وتسمعون كيف أنه في كل سنة وفي أيام زيارة الأربعين، يخرج مجموعة أناس – و لا أدري بماذا أصفهم وما أقول فيهم غير أننا نكلهم إلى اللّه تعالى وحسابهم عنده – فيتربصون بالشعائر والطقوس العبادية ويهاجمون الزائرين بألسنتهم الحداد وينتقصون منهم ومن إقامتهم الشعائر الحسينية، ويتكلمون بما لا يليق على هؤلاء الذين يهجرون الدنيا بما فيها من أجل أن يأتون إلى مرقد السبط الشهيد، عليه السلام،، وكلهم إيمان ومكارم أخلاق عالية وقيم عطاء وتسامح ويتوبون إلى اللّه تعالى ويستغفرون لذنوبهم، أو النيل من هؤلاء الذين يدفعون الغالي والنفيس من أجل خدمة الزوار، ونتسائل: لماذا كل هذا الحقد على مَنْ يبتغون رضا اللّه تعالى من خلال هذه الطقوس والشعائر العبادية”.

هؤلاء الأشرار الذين أغضبوا جناب السيد المرجع صاحب الفكر المنير، والقلب الكبير، بتصرفاتهم، وأقوالهم وأفعالهم الخارجة عن المنطق السَّوي، للدِّين الإسلامي، والعِبرة التاريخية فلو قرأ أولئك عن أعمال طغاة التاريخ من يزيد الشَّر وحتى الطاغية المقبور، وما بينهما من المتوكل وأمثالهم الذين حاولوا أن يطفؤوا نور الله بأقوالهم وأفعالهم المتمثِّل بالإمام الحسين، عليه السلام، ومرقده الشريف، ومسيرته المباركة في الأربعين، فذهبوا جميعاً إلى مزابل التاريخ وها هو الإمام الحسين، عليه السلام، يتألق في سماء الإنسانية، وقبته النورانية تُناطح السَّحاب علواً وارتفاعاً معنوياً، وهذا حال كل مَنْ يقف في طريق الإمام الحسين، عليه السلام، فالحسين باقي لأنه مشروع الله ودينه في الحياة، والكل إلى الزوال، ومدى بقاءك وذكرك هو بارتباطك بالإمام الحسين، عليه السلام، وفكره، وخدمته.

ونقول مع السيد المرجع: “نسأل اللّه تعالى أن يحشرنا مع أصحاب القلوب الطاهرة والمؤمنة ممَنْ يتركون الدنيا وراء ظهورهم ليتشبَّثوا بأمل النجاة في زلزال الآخرة، لما يتمتعون به ويبدونه من هذا الإخلاص والإيمان والتضحية والعطاء”.

السلام على السائرين إلى قبلة الأحرار وكعبة الثوار الإمام الحسين، عليه السلام، في الأربعين.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا