ثقافة رسالية

القرآن الكريم مصدر الثقافة القويّة

الانسان  بطبعه كائن ثقافي؛ شاء أم أبى، والمقصود بأن الانسان كائن ثقافي أي أننا محتاجون دائما الى ثقافة تكون التي من خلالها ننظر الى الاشياء ونفسّر الحياة، ونبرر من خلالها أفعالنا، فلا يمكن للإنسان إلا أن يحمل ثقافة معينة توجهه وهي اشبه ما تكون بالنظارة التي يلبسها لينظر من خلالها الى العالم، فمنها يفسر الحياة من حوله، وايضا يوجه أفعاله.

سواء كنت واعٍ أنك محتاجا الى الثقافة وواعٍ الى الثقافة التي كونتها لنفسك أم لم تكن واعيا لذلك، هذه حقيقة جوهرية في الانسان بـأنه كائن ثقافي.

بعض الناس يُدركون هذه القضية ونتيجة لذلك يعمل لبناء مفاهيمه، فيعمد الى اختيار الثقافة التي ينظر بها الى الحياة، والبعض الآخر قضية الثقافة في حياته متروكة للصدفة، والعادات، والتقاليد، وحين يقف أمام موقف معين فلابد أن يبرر وجهة نظره، فإما يلجأ الى الثقافة العلمية العقلانية الرشيدة في فهم الحياة، او تكون تفسيراته خرافية اسطورية مبنية على ظنون ليس لها أساس.

من هذا المنطلق فإن من يمتلك الثقافة في المجتمع فهو يمتلك الناس فعليا، ومن بيده مقاليد التوجيه الفكري والثقافي في المجتمع هو الذي بيده آليات التحكم، فعلى المدى القصير هو الذي يتحكم في سلوكيات الناس؛ في الملبس، والمشرب، والمكسن وطبيعة العلاقات..، وعلى المدى البعيد ـ من يمتلك الثقافة ـ هو من يمتلك الاجيال القادمة في  المجتمع، ومن يترك الثقافة يكون قد ترك توجيه المجتمع وخسره بعد ذلك.

⭐ مَن يمتلك الثقافة في المجتمع فهو يمتلك الناس فعليا، ومن بيده مقاليد التوجيه الفكري والثقافي في المجتمع هو الذي بيده آليات التحكم

خلال المئة سنة الماضية؛ مجتمعات العالَم ومنها مجتمعاتنا الاسلامية عاشت لحظة غير مسبوقة في التنافس الثقافي، فسابقا كانت القارات منقطعة عن بعضها البعض، فالحصول على كتاب او معرفة معلومة، فإن الانسان بحاجة الى سفر وتقل الأخبار، لكننا وبسبب الثورة الصناعية والتي سهلت بعد ذلك ثورة اتصال الذي اسهمت في سهولة طباعة الكتب وتداولها، وبعد ذلك ظهورالإعلام والتعليم الممنهج في المجتمعات، صرنا نعيش اليوم في لحظة تاريخية غير مسبوقة في التنافس والصراع الثقافي، وخلال الثلاثين سنة الماضية وصل التنافس الى الذروة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والاعلام الحديث، وأساليب التعليم.

  • كيف يؤسس القرآن الكريم لثقافة رصينة؟

ونحن كملسمين خلال هذا الصراع الثقافي نعيش هذا السؤال: كيف نبني ثقافتنا في ظل الصراع الثقافي القائم؟

وما هي المرجعية الثقافية بالنسبة لنا؟

للاسف  ـ كمسلمين  ـ نعيش في هذه الظروف حالة من عدم التدين الفكري؛ ومعناه أنك تجد إنسانا مصلّيا حاجّا لبيت الله، وصائما في شهر الله، إلا فكره ومنهجه، وثقافته ليست لها علاقة بالمرجعية الدينية الصحيحة التي يجب ان يبني فكره عليها، وهذه قضية في غاية الخطورة، لانه سيأتي يوم من الايام تجد شخصا في كامل الايمان السلوكي، لكنه يطرح أفكاراً وتوجهات بعيدة كل البعد عن الاصول الفكرية للدين.

المرجعية الأولى التي يجب ان يُبنى عليها ثقافة الانسان المسلم هو القرآن الكريم، وقد تسأل: لماذا القرآن الكريم؟

من الناحية العقائدية نحن نؤمن أن آيات القرآن الكريم كلام الله – عزوجل – ووصفه النبي بأنه الحبل الممدود بين السماء والارض، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي”، والقرآن وصف نفسه بأنه حكيم، ومبارك، وهدى، وانه كتاب يثير عقول البشرية.

عن أبي الله الصادق، عليه السلام، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّكُمْ فِي زَمَانِ هُدْنَةٍ، وَ أَنْتُمْ عَلَى ظَهْرِ سَفَرٍ، وَ السَّيْرُ بِكُمْ سَرِيعٌ،فَقَدْ رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ،يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ،وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ، وَ يَأْتِيَانِ بِكُلِّ مَوْعُودٍ، فَأَعِدُّوا الْجَهَازَ لِبُعْدِ الْمَفَازِ”.

فَقَامَ الْمِقْدَادُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا دَارُ الْهُدْنَةِ؟ قَالَ:«دَارُ بَلاَءٍ وَ انْقِطَاعٍ، فَإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَ مَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ،وَ مَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَ هُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ، وَ هُوَ كِتَابٌ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَ بَيَانٌ وَ تَحْصِيلٌ، وَ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، لَهُ ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ؛فَظَاهِرُهُ حِكْمَةٌ وَ بَاطِنُهُ عِلْمٌ، ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لَهُ تُخُومٌ  وَ عَلَى تُخُومِهِ تُخُومٌ، لاَ تُحْصَى عَجَائِبُهُ، وَ لاَ تُبْلَى غَرَائِبُهُ، فِيهِ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَ مَنَازِلُ الْحِكْمَةِ،وَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَعْرُوفِ لِمَنْ عَرَفَهُ”.

وإذا عدنا الى الناحية التاريخية نجد النهضة الاسلامية منذ بدأت والى اليوم، أن عنصرا أساسيا فيها هو القرآن الكريم لا يمكن تجاوزه، فجميع ما يُنسب لعلوم العرب والمسلمين؛ من الفقه، والاصول، والجغرافيا، والكيمياء، هذه العلوم بدأ تطويرها من القرآن الكريم، فبإثارته لفضول الانسان، وتحريره من الأغلال وبدفع الفرد ليكتشف الطبيعة وينطلق، حرره من قيود ورواسب التقاليد، وطلب منه أن ينطلق في الحياة.

ومن الناحية الواقعية للقرآن الكريم دور كبير في حياة الانسان، فحين يتلو الفرد القرآن الكريم ويتدبر في آياته، يُفتح له أنواع المعارف، والتعاليم الاخلاقية، وهو كتاب سطّر الديانات الأخرى العالمية، وتكلم ايضا عن النجوم والكواكب، ولم يُهمل العلاقات الاجتماعية، والصراع، والحرب، والسلم، ولم تدع آيات الذكر الحكيم شيئا في الانسان إلا وتكلمت عنه.

لو أن أحدنا يجرب أن يفرّغ من عمره شهرا او شهرين للتأمل في كتاب الله سيجد أن هذا الكتاب يفتح له آفاق المعرفة الواسعة.

  • الأميّة القرآنية

الأعم الاغلب في مجمعاتنا الاسلامية يعانون مما يسمى بالأمية القرآنية، ومعنى الأمية عدم فهم الشيء، والأمية القرآنية تعني أن نقرأ الآيات ولا نفهمها، او نفهم القرآن لكن ننظر اليه ككتاب تاريخي لا علاقة له في حياتنا اليومية! لدينا الكثير من الاسئلة المحورية في حياتنا في مختلف المواضيع، لكن حين عرضها على القرآن الكريم لا نجد هناك ربطا، وهذا هو عدم فهم القرآن، وهذه هي الأمية القرآنية، ولها ثلاثة أسباب:

  • السبب الأول: عدم الثقة بالعقل:

القرآن الكريم جاء ككتاب يتحدث مع الانسان في جانبه العقلي، باعتباره إنسان عاقل يمتلك قدرةً كاملة لاستعاب الصح من الخطأ؛ من التفكير، والتركيب، والتحليل..، فإذا ضعفت وشوهت قدرات الانسان، فإنه لا يستطيع فهم القرآن الكريم، ولا كيفية التعامل معه، لأنه كتاب {لأولي الألباب}، وهنا العتب كبير على التعليم في مجتمعاتنا، وعلى الأُسر، فالنظام التعليمي الموجود لا يدعو الانسان الى الفكير النقدي، ولا يعطي الفرد الجرأة للتفكير الصحيح، وفي بعض الاحيان كثير من الأسر هي سبب في ضمور التفكير العقلاني عند أبنائها.

هذا المنهج الموجود في مجتمعاتنا يؤدي الى إضعاف القدرات العقلية عند الأجيال، و الضعف يجعل الفرد ضعيف التفكير، والتحليل، والنقد، وبالتالي يفقد الثقة بعقله، مع أن أعظم ما خلق الله ـ تعالى ـ هو العقل، قال الإمام الصادق، عليه السلام: “إن الله خلق العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحب إلي منك لك الثواب وعليك العقاب”.

  • السبب الثاني: ضعف اللغة العربية:

ليس المطلوب ان يكون المسلم سيبويه او أي عالم لغة عربية، وإنما المطلوب ان يوجد الحس العام للغة العربية، أي يمتلك الفطرة اللغوية التي تعينه على فهم القرآن الكريم، والسبب في ضعف اللغة العربية عند الكثير؛ هي المناهج الدراسية، وطبيعة الحياة اليومية، وحين نأتي لنتعامل مع القرآن الكريم ـ مع الضعف في اللغة ـ نجد انفسنا لا نفهم القرآن الكريم، إذ نجد الفاصل اللغوي الزمني بيننا وبين القرآن الكريم.

  • السبب الثالث: افتقاد المنهج الصحيح لفهم القرآن الكريم:

قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، فالله ـ تعالى ـ لم يُنزل كتابه المجيد بحيث لا يفهمه الناس، او أنه يتحوي على أحاجي لا يفهمها أحد، فإذا كان الله قد يسّر القرآن، فلماذا نجد الصعوبة في فهمه؟!

إذن؛ نحن بحاجة الى منهج لفهم كتاب الله، وهناك دورة في اليوتيوب للتدبر في القرآن الكريم في هذا الرابط (https://youtu.be/Gxtw4UDWPV8)،  هذه الحلقات تعطي الفرد أرضية مناسبة للانفتاح على  القرآن الكريم، وتعلّم كيف يربط المتدبر بداية السورة بنهايتها، ومعرفة تسلسل الآيات القرآنية، وتنوع المواضيع في السورة الواحدة، وكيف يتم ربط هذه المواضيع ببعضها البعض، وبالتالي أخذ البصيرة وتطبيقها على النفس.

⭐ الصراع الثقافي الدائر اليوم في العالم، لا يمكن مواجهته بثقافة هشّة ومائعة، وفي حالة واحدة يمكن الدخول في هذا الصراع عبر الثقافة القرآنية

ما يتعرّض له القرآن الكريم من حرق  وإهانة في السويد وأماكن أخرى، أحزننا كثيرا، الكتاب الذي انزله الله هدى ورحمة، وبصيرة، ألا يحزننا أيضا أن هذا الكتاب العظيم موجود في بيوتنا، لكنه لا يُفتح ولا يُقرأ فيه، وإذا أردنا ان نفحته فللحلف، والاستخارة، والبركة، وأحيانا يلجأ البعض الى إكمال ديكور بيته بالقرآن الكريم، وإقصائه بهذه الطريقة هو ممارسة غير شعورية بإلغاء هذا الكتاب من حياتنا، وعدم تفعيله في واقعنا، فنحن مشاركون ـ بطريقة أو بأخرى ـ بالغائه وعدم الاهتمام به.

  • كيف ننشئ أجيالا قرآنية؟

لكي ننشئ أجيالا قرآنية لابد من عدة أمور:

الأول: ان نسبق الى اطفالنا قبل أن يأتي إليهم الآخرون ويضعون الحواجز بيننا وبين القرآن الكريم، يوصي الإمام الصادق، عليه السلام، شيعته: “عليكم بالأحداث لا يسبقنكم اليهم المرجئة”، لان أول فكرة يعتنقها الانسان هي الأخطر، فالصراع الكبير بين الولايات المتحدة الامريكية والصين على منصة التكيوك، هو صراع مَن يسبق الآخر الى الجيل!

وإنشاء أجيلا قرآنية يتطلب مبادرات جماعية ببناء مراكز، ومجاميع قرآنية، ونفتح بيوتنا لهذا الأمر.

الثاني: إشاعة ثقافة التدبر في القرآن الكريم، صحيح أن هناك حلقات ودروس لحفظ القرآن الكريم، لكن ثقافة التدبر في آيات الذكر الحكيم لا تزال ضعيفة، ونحن بحاجة الى تأسيس ثقافة جماعية للتدبر، فالمتدبر للقرآن الكريم تتغير نظرته للآيات ويفهمها غير الفهم السابق ما قبل التدبر، ومن يمارس التدبر يشعر بالفرق الشاسع في فهمه للأيات الكريمة، وبالتالي تتفتح أمامه آفاق المعرفة.

الصراع الثقافي الدائر اليوم في العالم، لا يمكن مواجهته بثقافة هشّة ومائعة، وفي حالة واحدة يمكن الدخول في هذا الصراع عبر الثقافة القرآنية؛ لانها ثقافة التوحيد، والقيم الفاضلة، وثقافة التعلّق بالأنبياء، وهي الجديرة ببناء المجتمع سليما وقويا، وتوقض في الانسان التطلع للحياة، وتفتح أمامه  آفاقا كبيرة.


  • مقتبس من مجلس محرم هذا العام لسماحة الشيخ حسن البلوشي.

عن المؤلف

الشيخ حسن البلوشي

اترك تعليقا