ثقافة رسالية

غذِّ عقلك

العقل موهبة عظيمة وهبها الله ـ تعالى ـ للإنسان ليرفعه، ولكنّ العقل كالنبات يحتاج الى التغذية المستمرة، وإلا ذبل ومات.

كلّ إنسان يولد ولديه عقل وفطرة، ولكن مشكلته تبدأ من أنه لا ينمِّ ولايستخدم عقله بالشكل الصحيح، مثله، مثل جهاز التخزين الفارغ الذي تشتريه، يبقى فارغاً ما لم تغذه بالمعلومات.

والله وفّر للإنسان المقومات والأدوات التي تساعده على الرقي بعقله، يقول ـ عزّ وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، (سورة النحل، الآية78)، فمن استفاد من هذه الأدوات وتوفرت لديه عوامل التغذية، نما عقله و ازداد، وإلا بقي في حدود بذوره الأولية.

ولأن “الإنسان بعقله”، يقول امير المؤمنين، عليه السلام، فلابدّ أن نتساءل ما هو غذاء العقل؟ وكيف تتم تغذيته؟

الجواب: إن العقل يتغذى وينمو بالتعلّم والتفكّر، والحوار مع العقلاء، والاعتبار من التجارب، فالتعلم والفكر هما الطريقة الطبيعية لتغذية العقل، يقول الإمام الكاظم، عليه السلام: “يا هشام؛ العِلم بالتعلم”.

والاستفادة من تجارب الآخرين سبيل آخر لتغذية العقل، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “العقل حِفظ التجارب”. وكذلك مجالسة أهل العلم ومناقشتهم طريقة أخرى، فـ “مجالسة العقلاء تزيد في الشرف”.

⭐ العقل يتغذى وينمو بالتعلّم والتفكّر، والحوار مع العقلاء، والاعتبار من التجارب، فالتعلم والفكر هما الطريقة الطبيعية لتغذية العقل، يقول الإمام الكاظم، عليه السلام: “يا هشام؛ العِلم بالتعلم”

إن كل من يأتي الى هذه الحياة يمتلك مقدارا أولياً من الصفات الانسانية؛ مثل العقل والارادة والحب وما أشبه، ثم إذا وجد المناخ والغذاء الطبيعي نمت عنده القدرات هذه، فإنها تذبل او تبقى في حدودها الأولية، ومن هنا قد نجد طفلين في مستوى واحد من الفهم والإدراك والارادة في البداية، ثم يقع الانفصال بينهما لفترة من الزمن ويغرّب احدهما ويشرّق الآخر، وإذا بعد أربعين عاما نجد الفارق كبيراً جداً بين من وجد المناخ الطبيعي والغذاء لنمو عقله، وقد اصبح عبقرياً يسبر الأغوار بفهمه وإدراكه، والآخر بقي مجرد عامل بسيط في مزرعة، وحينما يلتقيان لا يفهم أحدهما الآخر، وكأن احدهما واقف على قمة جبل والآخر في وادي سحيق، فلا يسمع احدهما صوت الثاني.

وهنا ننقل قصة رجل غيّر مصيره حينما غذّى عقله، فقد اتهمه ابن رئيس العشيرة بالسرقة زورا وعدوانا، أما السبب فلأنه تقدم للزواج من ابنة عمه، بينما كان غريمه يرغب في الزواج منها، ولأنه الأقرب، فقد كان من الطبيعي أن تكون الفتاة من نصيبه، دون ابن رئيس العشيرة.

وقد دبّر الأخير تهمة السرقة ضده وكانت تلك التهمة كافية ليمتنع عمّه من قبوله زوجا لابنته، وهذا ما كان يريده الغريم.

كانت الكفة تميل بالطبع لصالح ابن رئيس العشيرة، بينما هو ابن فلّاح فقير، ولا يملك إلا إنكار التهمة، أما غريمه فباستطاعته أن يجمع كل أفراد عشيرته شهوداً عليه.

لم تكن المشكلة أن تلك التهمة كانت تسلب منه شرفه ومستقبله وابنة عمه فحسب، بل انها كانت تكلفه يده أيضا، فإذا استسلم للأمر، فإن عليه ان يمدّ يده الى قصاب القرية في ظهيرة يوم الجمعة، و أمام الجميع ليقطعها من الزند.

ترى الى من يلتجئ؟

لو كان غريمه غير ابن شيخ العشيرة لالتجأ الى أحد افرادها، أما وهو ابن رئيسها فلا احد يجرؤ على الوقوف في وجهه.

تلك الليلة لم ينم حتى صبيحتها، وبعد صلاة الغداة سجد لله ـ تعالى ـ طالباً منه العون لتجاوزه تلك المحنة المستعصية، ثم نام قليلا، ليستيقظ على همهمة ودمدمة، فقد كان بعض أفراد العشيرة قد جاؤوا لاخذه الى شيخها، ليحكم عليه، ومع انه حاول ان يجد مخبأ يختفي فيه إلا أنهم كانوا اسرع في الوصول اليه.

وتم اعتقاله، وعندما وقف أمام الذين تجمعوا في مضيف الشيخ، وفيهم غريمه، قدحت في ذهنه فكرة سرعان ما وضعها موضع التنفيذ، فبعد ان سُدّت كل الابواب لم يبق أمامه إلا ملجأ حصين أخير وهو ملجأ العِلم.

فلماذا لا يهرب اليه؟ إن بين مدينة الناصرية والنجف الاشرف مسافة ليست بالقليلة، ولكنه سيتوكل على الله ـ تعالى ـ للوصول اليها.

في لحظات، كان الرجل يركض هارباً باتجاه الطريق الفرعي الذي يمر عبر البساتين، ورئيس العشيرة وافرادها يركضون خلفه، لكنه كان اسرع منهم هذه المرة، فقد استطاع أن يختفي بين اشجار النخيل ويهرب بجلدته الى النجف الاشرف.

ومن هنالك كتب رسالة الى غريمه يقول فيها: “إن اليد ان كنتم تريدون قطعها ظلماً وعدوانا، سوف تضطرون الى تقبيلها في يوم من الأيام”.

⭐ أنت أيضاً؛ بإمكانك الانطلاق في آفاق الحياة عن طريق تغذية عقلك بالمعرفة، فـ “العقل أحسن حلية”، وبذلك تبني شخصيتك بناءً سليما وتنجح في الحياة

ولقد اجتهد في طلب العلم حتى بلغ ملبغاً عاليا، فعينه المرجع الاعلى في ذلك الوقت السيد ابو الحسن الاصفهاني ممثلا له في منطقة الناصرية.

وحينما عاد الى المدينة ودخلها بصفته الجديدة، خرجت كل العشائر لاستقباله، وفيهم رئيس العشيرة وافراد عشيرة غريمه السابق، ولم يكد يصل اليهم حتى تكالبوا عليه يرحبون به، ويقبلون يديه كما كان قد تنبأ بذلك في رسالته.

وهكذا التجأ الرجل الى العلم وانقذه العلم، و رفع مكانته عاليا، وكان من أنجح العلماء في تلك المنطقة.

أنت أيضاً؛ بامكانك الانطلاق في آفاق الحياة عن طريق تغذية عقلك بالمعرفة، فـ “العقل أحسن حلية”، وبذلك تبني شخصيتك بناءً سليما وتنجح في الحياة.

يقول امير المؤمنين، عليه السلام: “عليكم بالعلم فإنه صلة بين الاخوان، ودال على المروة وتحفة في المجالس، وصاحب في السفر، ومؤنس في الغربة، وإن الله تعالى يحب المؤمن العالم الفقيه، الزاهد الخاشع، الحيي العليم، الحسن الخلق، المقتصد المنصف”.

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا