أسوة حسنة

الدور الاجتماعي لأبي طالب بعد بعثة النبي الأكرم

تعد البعثة النبوية حدثا مهما من الإحداث التاريخية ومنعطفا عميقا في تغيير الأحوال البشرية، على مستوى الفرد والجماعة، وهذا التغيير لم يشمل شبه الجزيرة العربية فحسب، بل تعدى إلى أبعد من ذلك وهو ما يفسر قوة الانقلاب ومدى تأثيره على ما يسود المجتمعات من أعراف وتقاليد وأنظمة حاكمة لها قدسيتها عند أبناء المجتمع.
و هنا لا نريد ان نسهب في بيان طبيعة المجتمع القريشي وما تحكمه من قواعد جزئية وعامه ومدى صحتها وقبولها، أو عدم صحتها بقدر ما نريد بيان أن ما يمر به المجتمع القريشي من تغييرات ليس سهلا عليها وأيضا ليس من السهل القبول بها، وهذا ما يجعلها أن تفعل ما يمكن من أجل مواجهة هذا التغيير فهذه المرحلة مرحلة صعبة على بطون قريش وسادتها من جهة وعلى صاحب الدعوة الجديدة والفكر الجديد النبي محمد، صلى الله عليه واله، من جهة أخرى.
فموقف أبي طالب، عليه السلام، من الطرفين لم يعد موقفا منحازاً ولا خاذلاً في نفس الوقت وهو ما يفسر الدقة والذكاء الاجتماعي الذي تعامل به أبو طالب في تلكم المرحلة وهذا ما نجده عند مجيء قريش وشكايتهم عند أبي طالب ابن أخيه، إذ قالوا: “يا أبي طالب أن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل أرائنا فأما ان تكفه عنا، وأما ان تخلي بيننا وبينه”، ثم أن أبا طالب قال للنبي: “أن بني عمك هولاء يزعمون أنك تؤذيهم ، فقال: لو ضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو اهلك فيه ما تركته، ثم استعبر رسول الله، صلى الله عليه واله، باكيا، فقال ابو طالب يا ابن أخي قل ما أحببت، فو الله لا أسلمنك لهم ابدأ وقال لقريش : والله ما كذب ابن أخي قط”.

⭐ موقف أبي طالب، عليه السلام، من الطرفين لم يعد موقفا منحازاً ولا خاذلاً في نفس الوقت وهو ما يفسر الدقة والذكاء الاجتماعي الذي تعامل به أبو طالب في تلكم المرحلة


وهذا التعامل جعل قريش أمام موقفا محيراً من أبي طالب لا يعرفوا موقفه من ابن أخيه سواء انه الحامي له والمدافع عنه، هذا ما جعل قريش تتردد على أبي طالب من اجل استمالته أو أبعاده عن النبي، صلى الله عليه واله، لأنهم لا يريدوا حربا معه لأنهم يعرفونه ويعرفون شجاعته وقيادته لابني هاشم وعبد المطلب، وهذا ما جعلهم يفكروا بأكثر من طريقة للخلاص من النبي، صلى الله عليه واله، بعيدا عن مواجهته وهو ما حدث فعلا بعد وفاته، ولما عرفت قريش ان أبا طالب قد أبى خذلان ابن أخيه، وانه لا يسلمه إليهم وراوا الجماعة على مفارقتهم وعداوتهم مشوا اليه بعمارة بن الوليد المخزومي.
وكان أجمل فتى في قريش، فقالوا: يا أبا طالب هذا عماره أبن الوليد أبهى فتى في قريش وأجمله، فخذه أليك فأتخذه ولداً فهو لك، وأسلم لنا هذا ابن أخيك الذي قد خالف دينك ودين أبائك وفرق جماعة قومك لنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال أبو طالب: والله ما أنصفتموني تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم أبني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل وكان له صديقا مصافيا والله يا ابا طالب ما أراك تريد ان تقبل من قومك شيئا، لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره وأراك لا تنصفهم، فقال أبو طالب: والله ما أنصفوني ولا أنصفتني ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم علي، فأصنع ما بدا لك.
فمن محاسن هذا التعامل الذي تعامل به أبي طالب، صلى الله عليه واله، مع قريش جعلها لا تفكر بإيذائه في بداية الدعوة وان تعاملها أو أظهار استنكارها ورفضها لما يقوم به النبي، صلى الله عليه واله، أنما هو بطريقة غير مباشرة وغير صريحة وهذا ما يجعل الاعتداءات في بداية الدعوة هي اعتداءات فردية أو تشويه صورته أمام المجتمع رعاية لأبي طالب ولحمايته وكانت رياسة قريش بعد عبد المطلب لأبي طالب فكان أمره نافذا، وحمايته عندهم مقبولة، لعلمهم بأن أبا طالب على ملتهم ودينهم، ولو علموا أنه أسلم وتبع النبي، صلى الله عليه واله، فأنهم لا يقبلون حمايته ونصره، بل كانوا يقاتلونه ويؤذونه ويفعلون معه من الأذى أكثر مما يفعلونه بالنبي، صلى الله عليه واله.
لهذا كان يظهر لهم أنه على دينهم وملتهم وانه يدفع عن النبي لأجل القرابة التي بينه وبينه، وكانوا يعتقدون أنه أنما يحميه وينصره للحمية لا للإتباع في الدين، بل للحمية التي كانت مشهورة بين العرب، وهذا ما نجده في أكثر من موقف تعرض له النبي، صلى الله عليه واله، للمضايقة والأذى من قريش، إذ كانت مساحة أبي طالب في التعامل واسعة ورد الفعل مهما يكن فلا يجعل من قريش أن تصارحه بعداوتها له لأنه صريحا معهم في موقفه إذا تعرض النبي إلى أي أذى منهم، وهذا ما يجعل الحق معه في الدفاع عن أبن أخيه.

⭐ من هذا نفهم ان الدور الاجتماعي لأبي طالب، عليه السلام، بعد البعثة لم يتغير ولم يتذبذب مع اختلاف الظروف التي مر بها المجتمع القريشي فهو ذلك الحامي والكفيل للنبي، صلى الله عليه واله


فهو لا يتطرق إلى الأمر الذي جاء به النبي، بل إلى علاقة القرابة التي تربطه به وهذا ما حدث في” فترة كانت قريش تهدد وتتوعد باغتيال رسول الله، فقد أفتقده أبو طالب مرة، “كانت ليلة الإسراء كما ينقل الشيخ المفيد في كتابه أيمان أبي طالب بحث عنه فلم يجده، فهجم الحزن في قلبه ودب الخوف على حياة النبي في جوانبه فثارت ثائرته فأرسل إلى فتيان بني هاشم عشيرة المصطفى، وأمر كلا منهم أن يخبئ تحت ثيابه سلاحا حاد الشفرة وأمرهم ان يقف كل واحد منهم عند زعيم من رجال قريش، والغاية واضحة فهم في انتظار اشارة من أبي طالب، فإن رأى ما يسوؤه في النبي فان رؤوس هولا الكفرة لن تكون إلا بجانبهم في لحظة واحدة.
ومن هذا نفهم ان الدور الاجتماعي لأبي طالب، عليه السلام، بعد البعثة لم يتغير ولم يتذبذب مع اختلاف الظروف التي مر بها المجتمع القريشي فهو ذلك الحامي والكفيل للنبي، صلى الله عليه واله، والفاعل والمنصف والغير منحاز بالنسبة للمجتمع القريشي، وهذا ما جعله يلعب دورا مهما ليكون الوسيط الذي يلجأ اليه الطرفين في تسوية ما يحدث بينهما، وما يمكن أن يظهر لنا من خلال هذه المواقف المختلفة التي تعامل معها أبو طالب، عليه السلام، في حرصه على النبي محمد، صلى الله عليه واله، وحمايته بعيداً عن خروج أبو طالب عن خطه المعروف عند المجتمع القريشي هو بمثابة التقرير الواضح الذي يفسر مقبوليته وعدم اعتراضه على ما جاء به النبي محمد، صلى الله عليه واله، وما موقفه من قريش بهذه الطريقة أنما هو لدفع الخطر وأبعاد الحرب المباشرة بينهما ليأخذ النبي المساحة الزمنية الكافية لتبليغ ما جاء به لاسيما وان ما جاء به النبي لا يختلف ولا يتعارض مع توجه أبو طالب وأفكاره ومنطقه وتعاملاته المختلفة التي ثبتت أنه الممهد لهذه الدعوة الإسلامية الخالدة.



المصادر:


1- التو نجي، محمد، ديوان ابي طالب عم النبي، دار الكتاب العربي، ط1، بيروت- لنان، 1994.
2- العسكري، نجم الدين الشريف، محمد وعلي وبنوه الأوصياء، ج2، شعبة أحياء التراث والتحقيق في العتبة العلوية المقدسة، النجف الاشرف- العراق، 2015.
3- البرزنجي، محمد بن رسول، بغية الطالب في أيمان أبي طالب، تحقيق محمد حسين العطار، موسوعة نهج البلاغة في نهج البلاغة، ط1، كربلاء – العراق، 2017
4- النقدي، الشيخ جعفر بن محمد، مواهب الواهب في فضائل والد أمير المؤمنين (عليه السلام)، تحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الاميني، شركة ألكتبي للطباعة والنشر ، بيروت- لبنان،1922
5- دحلان، أحمد بني زيني، أسنى المطالب في نجاة أبي طالب، دار الأمام النووي، ط2، عمان الأردن، 2007.
6- المفيد، محمد بن محمد بن النعمان الحارثي، أيمان أبي طالب، مهر، تحقيق مؤسسة البعثة، ط2، 1413.
7- حسن، فيصل، أبو طالب طود الإيمان الراسخ، شبكة الفكر
8- الموسوي، شمس الدين أبي علي فخاربن معند، أيمان أبي طالب، أمير قم، ط1، قم –إيران،1410هـ.
9- خليل، محمد جواد،أبو طالب حامي الرسول وعظيم الإسلام، شبكة الفكر، ط2، 2004م.

عن المؤلف

م.م حسين رشك خضير/ كلية التربية الأساسية/ جامعة ميسان

اترك تعليقا