ثقافة رسالية

ضرورة المعرفة الدينية [2] لمن القيادة.. للحكمة أم للفضيلة؟

في هذا المقال سنتناول بشيء من التفصيل قاعدتي الحكمة والفضيلة، والتي سبق وأن أشرنا اليهما إجمالا في المقال السابق.

ما هي قاعدة الحكمة؟

تعني ان الانسان باعتباره كائنا عاقلا؛ اي له القدرة على حساب الامور، القدرة على معرفة العواقب والقدرة على تمييز الاشياء؛ هذا الشيء حار أم بارد، كبير، صغير، ناعم او خشن..، هذه القوة المودعة عند الانسان تدعوه الى عنوان اسمه “السعادة”.

السعادة تعني ضمن إطار قاعدة الحكمة؛ ان يسعى الانسان من أجل نفعه، ويتجنب ما يضرّه، قد تكون انطلاقة بحث الانسان عن النفع والضرر نابعة من اللذة والألم؛ حيث يسعى الفرد الى تجنب كل شيء مؤلم، كالحديد، والنار، والضرب، ويتجنب ما يؤلم تكوينه الداخلي، من المواد التي لا تتناسب ـ مثلاـ مع طبيعة الجهاز الهضمي، وفي مقابل المضار هناك منافع، حيث أن الانسان يستريح للجو المعتدل، ويرتاح إذا نام بمقدار جيد، ويشعر بنوع من اللذة اذا أكل طيبا ونافعا.

⭐ تنطلق هذه قاعدة الفضيلة من أن إنسانية الانسان ليست في ملاحظة المضار والمنافع، سواء كانت قريبة أم بعيدة، بل الانسان يتسم بأبعد من ذلك بأنه “كائن أخلاقي”

لو كان الانسان مدعواً لوليمة لذيذة في يوما ما، وفي ذلك اليوم كان شديد الجوع، وكان يعلم ان العشاء يضم أكلة دسمة، فلو أنه انشغل بأكل بعض الامور البسيطة، وبدل ان ينتظر ساعة الوليمة أكل الآيسكريم فانسدت شهيته، هذا الانسان بمقياس الحكمة (النفع والضرر)، يكون قد ضيّع على نفسه الأكلة المطلوبة، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “كم من لذة أضاعت لذات”.

وكمثال آخر، لو أن طالبا عنده يوم غد موعد امتحان، فبدلا من المراجعة اضاع وقته في اللعب، فعلى وفق قاعدة الحكمة فإن الطالب عمل فعلا  غير حكيم.

قاعدة الحكمة تعني؛ أن تجعل من الغائب كأنه حاضرا أمامك، فتنظر الى عواقب أي فعل، وأن تجعل من المستقبل وكأنه حالا، وبعبارة أخرى: أن تقدم الأهم على المهم على مستوى النفع والضرر.

  • قاعدة الفضيلة

تنطلق هذه القاعدة من أن إنسانية الانسان ليست في ملاحظة المضار والمنافع، سواء كانت قريبة أم بعيدة، بل الانسان يتسم بأبعد من ذلك بأنه “كائن أخلاقي”، بمعنى أنه يسعى لمراعاة القيم العالية، والى التسامي، ويتجاوز الرغبات الآنية، وبعيدة الأمد، ويتجاوز ذاته من أجل شيء أكبر من ذلك، وهذه هي قاعدة الفضيلة، فما يميز الانسان أنه يتصرف في أحيان ما، اذا التزم بالفضيلة ليس على اساس الدوافع المادية.

وأمثلة ذلك كثيرة؛ فقد ينتصر الفرد للمستضعفين في الأرض، على الرغم من عدم وجود أي رابطة بينه وبينهم، سوى رابطة الإنسانية، بعيدا عن روابط أخرى، كالعرق، والقبيلة، والدولة، واللغة..، فالانتصار يأتي أن الشخص الضعيف إنسان وكأنه له أخ، ذلك الانتصار يعبّر عن دافع عميق يتميز عن الدوافع الأخرى.

ومثال آخر؛ هو البر بالوالدين، كأن يكون عاطفا عليهما خصوصا في مراحل ضعفهما؛ حيث يكبران في السن، فبر الانسان بوالديه في هذه الحالة غير نابع من النفع والضرر، وإنما من شيء آخر وهو “الفضيلة”.

إذن؛ قاعدة الفضيلة تنطلق من مبدأ أن الإنسان متسامٍ، ويسعى للمعالي، وأن إنسانيته في كونه أخلاقيا.

  • العلاقة بين قاعدتي الحِكمة والفضيلة

هل قاعدة الفضيلة متطابقة مع قاعدة الحكمة؟ أم أن هناك فوارق بينهما؟

وهل احداهما ترجع الى الاخرى؟

وإذا تعارضتنا فأيها تقدّم على الأخرى؟

في ثلاثة نقاط يكمن الفارق بينهما:

الفارق الاول: الدافع للسلوك الحِكَمي هو النفع والضرر أو العنوان العام وهي (السعادة)، أما الدافع للسلوك الفاضل هي القيم الأخلاقية، فقد يكون سلوك شخص ما متطابقا بين الحكمة والفضيلة، لكن دافع الانسان هو الذي يجعل السلوك فاضلا أم حِكَميا، فعلى سبيل المثال، هناك من الناس من لا يسرق والسبب في ذلك هو الخوف من العقوبة، وهذا دافعه دافعا حِكَميا، فهو يخشى من الضرر، فهو يقول: إن ما اجنيه من السرقة لا يعادل ما احصل عليه من العقوبة.

هناك آخر لا يسرق والسبب في ذلك أنه يؤمن باحترام حقوق الآخرين، ويعتقد بأن التعدي على الناس أمر لا يجوز، فعلى الرغم من تشابه السلوك، لكن الدوافع اختلفت بينهما، فصاحب المثال الاول يمتنع بسبب الخوف، والآخر كان دافعه الالتزام بالفضيلة.

هذا المائز في الدافع يتشعب بعد ذلك الى تمييزن آخرين يكونان محل افتراق، مع ان السلوك واحدا، ففي قاعدة الحكمة في موارد معينة قد تتساوى الأمور، مثلا لو ان تاجرا كبيرا سرق شيئا بسيطا ومأمون الضرر، كأن يدخل الى محل بسيط وباستطاعته أخذ حاجة ما، ولا يستطيع أحد أن يعاقبه، الموضوع بالنسبة لهذا الشخص محايد؛ فهو إن سرق لن يتضرر، وإذا لم يسرق فهو يستطيع ان يشتري بدل الغرض المسروق العشرات من أمثاله. اما بالنسبة للإنسان الفاضل فالموضوع ليس محايدا، لان أحد طرفي الموضوع مرتبط بالفضيلة والطرف الآخر بالرذيلة، والحياد غير متصور في الفضيلة والرذيلة.

الفارق الثاني: فيما اذا قورن الجهد مع الحكمة او مع الفضيلة، فحين نقوم بعمل ما نحسب النتيجة في قبال الجهد المبذول، فإذا كانت النتيجة أقل من الجهد حينها يُترك ذلك العمل، لكن في معيار الفضيلة فإن الجهد غير محسوب، ففي القضايا الاخلاقية لا يحسب الإنسان الجهد المبذول، وإنما ينظر ما هو الواجب الأخلاقي عليه، لذلك فإن الذي يلتزم بالنفع والضرر فقط، لا يقبل على التضحية والمواساة، والإيثار، والشهادة في سبيل الله والمبادئ، لكن الانسان الفاضل على العكس من ذلك، فهو يبحث عن مواطن الفضيلة ويبذل نفسه فيها.

  • هل الفضيلة ترجع لقاعدة الحكمة؟

هل يقوم الانسان بواجباته الفاضلة لانه يشعر بالسعادة؟

هناك من يدعي من ان الفضيلة ترجع الى الحكمة، بتصوير ان الفضيلة تجعل من الانسان سعيدا حينما يقوم بأعمال فاضلة، أو ان الفضيلة ناشئة من ضرورة اجتماعية.

من يدقق في مفهوم الحكمة والفضيلة بالمعاني التي طُرحت سابقا، سوف يجد بأن هنالك فارقا عميقاً بينهما، فالحكمة هي مجرد منظم لغرائز الانسان، فهي اشبه بمصباح يبيّن الامور، ويبقى اتخاذ القرار للفرد نفسه، اما الفضيلة هي منبع للقرارات والأحكام، التي ما يجب، وما لا يجب على الانسان ان يفعله.

السعادة التي تُدّعى ان الانسان يكون فاضلا لانه يشعر بها، وبالتالي تكون الفضيلة راجعة للحكمة، هذا سوف يكون تفسيرا قاصرا للإنسان الاخلاقي، لان هذا السبب غير قادر على تفسير ـ مثلا ـ موقف الإنسان المؤثِر، فهو حين يمنع نفسه هل يشعر بالسعادة؟ بل اكثر من ذلك، الشخص المواسي الذي يستطيع أن يقوم بفعل ما، لكنه يتركه لان آخر يتشابه معه في الضرر، وابرز الامثلة على ذلك، ابي الفضل العباس، عليه السلام، في كربلاء، فلم يكن هناك مانعاً اخلاقياً يحول دون شربه من ماء الفرات، لكن تسامي العباس جعله يواسي الإمام الحسين، عليه السلام، الذي هو في ذات الوقت عطشانا، فَفعلُ أبي الفضل، لا يُفسر بمعايير النفع والضرر.

⭐ الدافع للسلوك الحِكَمي هو النفع والضرر أو العنوان العام وهي (السعادة)، أما الدافع للسلوك الفاضل هي القيم الأخلاقية

من يقول بأن الفضيلة راجعة للحكمة باعتبار ان حفظ النظام الاجتماعي يتطلب ايجاد الاخلاق، فهذا غير صحيح، ذلك ان الفضيلة تنمو في النظام الاجتماعي ولا تنبع منه، بل تأتي من عقل الانسان وضميره.

  • هل تتعارض الحكمة مع الفضيلة؟ وايهما يقدم على الآخر؟

بعد ان عرفنا طبيعة كلا من الحكمة والفضيلة، وان الأخيرة هي مراعاة لإنسانية الانسان، سوف يكون واضحا انه في تعارضهما، تُقدّم الفضيلة (الفعل الاخلاقي) على مقاييس النفع والضرر والمصالح المادية وان كانت طويلة الأمد، بل الادق من ذلك؛ إذا اراد الانسان ان يكون حكيما، والحكمة تعني مراعاة طبيعة الشيء، فإن طبيعة الإنسان حتى تكون كاملة عليه ان يراعي الاخلاق، فالحكمة تدعو الانسان ان يكون فاضلا، يقول النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله: إنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة”، فالانسان الذي يبحث عن مصلحته عليه ان يراعي اللياقات الاخلاقية فيكون فاضلا.

عن المؤلف

الشيخ حسن البلوشي

اترك تعليقا