مكارم الأخلاق

العفو.. هل هو دليل ضعف؟



من يقود مركبة في الشارع يعرف قيمة العفو عندما يمنع سائق نظيره الآخر من الدخول في شارع فرعي ليجتاز هو قبله، او ينعطف الى اليمين او اليسار إعطاء الإشارة، او الوقوف بشكل غير صحيح على جانب الطريق، أو إطلاق زمّار السيارة من الخلف بشكل متواصل، او “الترميش” بالمصابيح للتنحّي جانباً وإخلاء الطريق للسيارة الأسرع، ومن أمثال هذه الحالات كثير في شوارعنا الفاقدة لقانون المرور، وإن وجد، فلا التزام، ولا روادع في الأمر.
هذه الحالات العابرة التي تحصل في ثوانٍ سريعة، من شأنها خلق مواقف متشنجة تفضي الى شجار ونتائج غير محمودة على مدى بعيد.
فما أجمل أن يتوقف السائق لعابر، ينتظره حتى يعبر الشارع، أو ان ينتظر مركبة اخرى قريبة منه بالمرور.
لمن لديه مركبة تقلّه بين البيت ومكان العمل، او تنقل بها لقضاء حاجاته في شوارع المدينة، يدرك جيداً حجم الشعور الغامر بالارتياح والانبساط الذي تنتجه الابتسامة وعلامة الشكر ممن يمر أمام مركبتك.
فأين الضعف والانسكار والهزيمة في هذا المشهد كما يتوهّم البعض؟!

⭐ رب قائل بأن العفو يزيد المسئ سوءاً، ويفسح امامه المجال للتمادي في انتهاك حقوق الآخرين، بينما “فلسفة العفو الحقيقية هي محاولة إبعاد جوّ الذنب والجريمة عن المجتمع”

كيف نستفيد من العفو؟
صحيح أن العفو من الصفات الاخلاقية الراقية المؤكد عليها في القرآن الكريم، وفي سيرة رسول الله، والأئمة المعصومين من بعده، بيد أنها ليست بالرخص الذي نبذله لأي كان، فربما نكون أما ظالم او متجاهر بانتهاك الحرمات والمقدسات، فان العفو لهكذا اشخاص هو مصداق الضعف والذلّة، وهو موقف المتخاذلين الخائفين من الظالم والمتجاوز المستلح بعوامل القوة المالية او السياسية او الوجاهة الاجتماعية.
بينما الإسلام وضع هذا البند في المنظومة الاخلاقية لفائدة الفرد والمجتمع، ولمزيد من التماسك والتواصي بين الناس، وقبلها؛ تكريس الثقة في نفس الانسان المؤمن، فيعرف أنه قوي وهو يعفو عن أخيه المؤمن المسيئ او المخطئ.
ومما يمكن رصده من الفوائد في علاقتنا الاجتماعية لهذه الصفة الأخلاقية الجميلة:

1- التآلف والتعاون


وهذا يتحقق عندما يأتي العفو على القلب المشحون بالضغائن والحسابات السلبية مع هذا او ذاك لاسباب مختلفة، ويمحوها جميعاً، ويجعلها بدرجة عالية من النقاوة والشفافية الى درجة ينطبق فيه حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأن “المؤمن مرآة أخيه المؤمن”.
إن العفو يعالج بذكاء حالة الأنانية وحب الذات، فمن أبرز اسباب نشوب النزاعات الفردية والاجتماعية هو التوقف عند عتبة الذات وعدم التنازل أمام الآخر بدعوى الاحتكام مبدأ الصح والصواب، فإن كان الطرف المقابل على خطأ عليه الاعتذار فوراً، وإن كان غافلاً عليه الانتباه ولو بعد حين! ومن ثمّ فان وضع كهذا من شأنه انتاج الأزمات والحروب الكلامية وتراشق الاتهامات، ثم القطيعة، وربما يصل الأمر الى العدوانية.

⭐ وهم المظلومية يضع نظارة سوداء على عين الانسان تفقده القدرة على العفو عن الآخرين عندما يخامره شعور بأنه مظلوم ومهضوم حقه من قبل الآخرين، وأنهم لا يحترمونه ويعطونه قيمته التي يتوقعها


هذا المآل لن يكون له مكاناً في مجتمعنا اذا تحلّينا بالعفو عن الآخر، وفسحنا المجال أمام المخطئ لأن يعود الى رشده وصوابه، ويتحول الى الموقف الايجابي في علاقاته مع الآخرين، فعندما تكون هنالك دعوة من الأهالي للتعاون على تنظيف الحيّ السكني، او الإسهام في رفع احتياجات المدرسة فان المعاقبين اجتماعياً على اخطائهم سيجدون امامهم جداراً عالياً مكوناً من مشاعر الكراهية إزاء الآخرين.
و رب قائل بأن العفو يزيد المسئ سوءاً، ويفسح امامه المجال للتمادي في انتهاك حقوق الآخرين، بينما “فلسفة العفو الحقيقية هي محاولة إبعاد جوّ الذنب والجريمة عن المجتمع”، (الأخلاق عنوان الايمان ومنطلق التقدم- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).


2- الراحة النفسية

أما على الصعيد الشخصي فان العفو يوفر لصاحبه الارتياح والاستقرار النفسي عندما يغمره بشعور بالرضى إزاء الآخرين، فلا هو يطارد أحد بالمسائلة والانتقام، ولا يجد أنه مُدان بشيء لغيره عندما تعم حالة العفو بين الأخوان، ولعل هذا يفسّر لنا استحباب الدعاء لأربعين مؤمناً في صلاة الليل، ويؤكد العلماء أن دعاء المؤمن لغيره يجلب له الدعاء بالخير من إخوانه الآخرين، لذا “إنما الاسلام إنما يأمرنا بالعفو لأن الانسان عندما يكون ديدنه العفو والصفح عن الآخرين، فان قلبه سيكون نقياً مطمئناً، ولا يمكن ان يصاب بالتعب والارهاق، لأن الارهاق يظهر نتيجة للحالات النفسية المتمثلة بالحزن والغمّ لا نتيجة لعمل الجسم”.

3- العزة والكرامة للجميع

اذا دعونا شخصاً لأن يعفو عن جاره المسيء –مثلاً- او من لم يحترمه في موقف معين، فان الجواب يأتي؛ بأن الناس كلهم هكذا، فلماذا أكون أنا الوحيد أعفو عن الجميع؟!
القضية ليست دعوة لشخص دون آخر، بقدر ما هي ثقافة اجتماعية عامة لها مدخلية مباشرة في تحقيق العزّة والكرامة للجميع، فاذا نأخذ برأي من يقول بعدم العفو عن المسيء، فالنتيجة لن تكون سوى تراكم الضغائن في القلوب، وتحيّن الفرصة للانتقام، ومن ثم نكون في مجتمع تسوده الصراعات المؤدية قبل كل شيء الى تضعيفه واحتقاره أمام الآخرين، ولذا جاءت الروايات عن المعصومين تؤكد أهمية العفو كثقافة بين الناس، فقد جاء عن رسول الله: “عليكم بالعفو فان العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً فعتافعوا يُعزّكم الله”.
فمن يحصل على العفو من الآخر المحسن له، فمن الطبيعي سيغمره شعورٌ بالعزّ والكرامة، والعكس بالعكس تماماً، وهذا الشعور الفردي ينعكس بالضرورة على الكيان الاجتماعي بأكمله فيكون عزيزاً متماسكاً.

  • وهم المظلومية

هذه الحالة النفسية تضع نظارة سوداء على عين الانسان تفقده القدرة على العفو عن الآخرين عندما يخامره شعور بأنه مظلوم ومهضوم حقه من قبل الآخرين، وأنهم لا يحترمونه ويعطونه قيمته التي يتوقعها، لذا فهو لا يفكر بالعفو اساساً لمثل هكذا اشخاص!
إن العفو، وسائر الصفات الأخلاقية من شأنها تهذيب نفس الانسان المؤمن وجعله متوازناً في علاقاته الاجتماعية، لذا فان “الانسان المؤمن يطلب من الله –تعالى- أن لايرفعه بين الناس إلا ويضعه عند نفسه بقدر تلك الرفعة”.
وحتى وإن كانت ثمة محاولات للتجاوز والانتهاك فان المنظومة الأخلاقية العظيمة أقوى بكثير من هذه السقطات الاخلاقية، وبعد القرآن الكريم، فان الأئمة المعصومين، عليهم السلام، يقدمون لنا صوراً رائعة للعفو عن المسيئين رغم حجم الإساءة الكبيرة التي لا يتصورها أحدنا اليوم، حتى وإن كان من أقرب المقربين، فكيف اذا كان المسيء شخصاً من الأعداء قادماً من الشام؛ مملكة معاوية بن ابي سفيان، ويقف أمام شخص مثل الامام الحسن المجتبى، سبط رسول الله، وينطلق بلسانه شتماً وسبّاً له ولأبيه أمير المؤمنين، والقصة معروفة للقارئ الكريم، وكيف ان الامام الحسن استوعبه وأغرقه بكرمه وعفوه حتى تحوّل من العداء الى الولاء.

عن المؤلف

تيسير عبد الأمير

اترك تعليقا