حدیث الناس

الناس والحرامية

سمعتها من رجل بغدادي قبل فترة على أنها حادثة حقيقية وقعت في زمن الحصار الاقتصادي على العراق في تسعينات القرن الماضي:

إن صاحب محل تجاري في بغداد كان معروفاً بامتلاكه أكداس من المواد الغذائية التي تعدها السلطات الحاكمة آنذاك نوعاً من الاحتكار والتلاعب بالاسعار.

صادف أن احتاج شيئاً من محله في وقت متأخر من الليل فذهب الى المحل وإذا به يتفاجئ بعدد من الاشخاص في محله التجاري وهو مفتوح وقد اصطفت عليه سيارة حمل صغيرة “بيكم” وهم مشغولين بنقل محتويات المحل بكل برود أعصاب. وصل اليهم وقد عقدت الدهشة لسانه، وسألهم مرتجفاً من أنتم؟! وماذا تفعلون؟!

التفت اليه رئيس المجموعة (العصابة) واشار اليه بأصبعه بهدوء: نسكت عليك، و أنت أسكت ايضاً.

عاد الى بيته، وفي صباح اليوم الثاني، لم يتمالك نفسه بعد تسليب محله التجاري بدم بارد، إلا ان يتوجه الى مركز الشرطة طلباً للمساعدة، واصطحب معه هدية بسيطة لتسهيل الأمر… وكانت دهشته ومفاجأته أشدّ مما شاهده أمس، فقد وجد ضابط المخفر هو نفسه رئيس عصابة الأمس! فحملق الضابط في وجهه قائلاً:

أيها ال….. ألم أقل لك اصمت حتى نصمت نحن كذلك ونغطي عليك مخالفتك؟!

تدارك الرجل أمره وقال:

سيدي! أتيت لأشكرك على انجازك أمس، وهذه الهدية لك!

⭐ فلسفة العلاقة بين الجماهير والنخبة السياسية الحاكمة في الوقت الحاضر قائمة على العمل والانجاز والفائدة، بغض النظر عن أخلاق وسلوك الموظف او الوزير او الرئيس

واليوم اذا بحثنا عن جميع “المسؤولين” في الدولة العراقية بعد 2003، ممن سرقوا المليارات من الدولارات في عمليات اختلاس وفساد في وزارات ومؤسسات متعددة، وسألناهم لماذا فعلتم كل هذا؟ لجاءنا الجواب؛ بـ {إِنَّمَا نَحْنُ مَصْلِحُونَ}، عملنا وتعبنا من اجل هذا الشعب المظلوم! وربما يشرعن البعض عمله، ويعده من “المستحبّات”، وأن من حقّه الاستحواذ على الملايين والمليارات.  

لذا لا طاقة للناس على خوض الجدل بين شرعية اللصوص، وأدوات القوة القاهرة التي تمكنهم من ثروات البلد، إنما المطلوب ـ كحد أدنى- ممن يطلق عليهم صفة “مسؤولين” أداء عملهم بمهنية خالصة، حتى لا تبقى امرأة تفترش الارض لبيع المواد الغذائية والالبسة، ولا يضطر الاطفال الصغار لممارسة أعمال الكبار، وأن يكتسب الطالب العلوم والمعارف والآداب من المدرسة والجامعة، وهكذا؛ الى آخر القائمة، وهذا ما لم يتم خلال السنوات الماضية، وربما أطبق اليأس على نفوس العراقيين بأن النظام السياسي الحالي لا يتمكن من ترك عادة الاختلاس والفساد، ومن اجل الاستمرار وعدم الازعاج في هذه الممارسة، فهو يتبع سياسة الترضية وشراء صمت هذه الشريحة او تلك في المجتمع، بشكل مباشر؛ من خلال المنح المالية وقطع الاراضي والوظائف الحكومية، او بشكل غير مباشر؛ من خلال شراء ذمم الواجهات الاجتماعية المؤثرة.

⭐ هل نتوقع ظهور انسان نزيه مائة بالمئة في دائرة حكومية او اية مؤسسة في الدولة، ليس في العراق، بل في أي بلد بالعالم؟

حكومة السيد محمد شياع السوادني تحرص مشكورة على إعادة بناء جسور الثقة مع جماهير الشعب والتي تصدعت طيلة السنوات الماضية، ظناً منها أن الناس تبحث عن اللصوص وعن الاموال المسروقة، فإذا ما سمعوا بإلقاء القبض عليهم، مع نبأ استعادة الاموال فان حياة البؤس والشقاء والحرمان ستختفي فوراً، وقد أشار ضمناً السيد السوداني الى انه لا يريد تكرار ما فعله أسلافه باطلاق الادعاءات الفارغة حول هذا الموضوع تحديداً، وإنما يريد تعضيده بالدليل الملموس، فحاسة البصر لها تأثيرها البالغ على المشاعر، ومن ثم صياغة الاحكام الجديدة إزاء مختلف الامور، فكان مشهد عرض أكداس الاوارق النقدية على جانبي منصّة الحديث للرئيس السوداني وهو يبشر الناس بالانجاز الكبير باستعادة نسبة 5% من مجموع الاختلاس المهول مؤخراً من الأمانات الضريبية.

إن الاجراء الأخير لحكومة السيد السوداني تُحسب له كدلالة على عزيمة نحو التغيير، والناس كعادتهم يسايرون صاحب الخطوات الايجابية تكريماً له وتشجيعاً للأكثر، كما هو قرار تقليص ثمن تعبئة خطوط الهاتف النقال بعد طول نهب خلال السنوات الماضية، ثم القرار التاريخي والحساس بتحويل أراضي “البستنة” المشيدة عليها الدور السكنية الى صفة “طابو” منحها الصفة الرسمية خلافاً للقانون المعروف في العراق بمنع تشييد الدور السكنية في الارض الزراعية؛ كل هذه مما يمكن تسميته؛ بالاجراءات العملية المباشرة لتحسين واقع حياة الناس، وهي النقطة التي اشار اليها رئيس الوزراء الأسبق؛ نوري المالكي في حديث خصّ به قناة الشرقية قبل أيام، بأنه يرغب بأن تلامس أعمال الحكومة الحالية واقع المجتمع وحياة الناس.

ولكن!

هل مشكلة الناس مع الحرامية كأشخاص؟!

وهل نتوقع ظهور انسان نزيه مائة بالمئة في دائرة حكومية او اية مؤسسة في الدولة، ليس في العراق، بل في أي بلد بالعالم؟

فلسفة العلاقة بين الجماهير والنخبة السياسية الحاكمة في الوقت الحاضر قائمة على العمل والانجاز والفائدة، بغض النظر عن أخلاق وسلوك الموظف او الوزير او الرئيس، نعم؛ يُدان المسؤول الحكومي في أي منصب كان عندما يفضل مصلحته الشخصية على مصلحة الدولة والشعب، وإلا فان عمليات الاختلاس والفساد منتشرة في جميع انحاء العالم، ولاسيما الدول الرأسمالية المتقدمة المدعية تطبيق النظام الديمقراطي، وأنها تمثل رؤية وطموح الاغلبية، والسبب بكل بساطة؛ الانسان، ذلك الموجود الحامل لكل محفزات الفساد من حب المال والجاه، والأنانية، والطمع، والظلم، إلا من استثنى نفسه بمحفزات الصلاح والفلاح في نفسه، وهذه قضية شخصية وذاتية بامتياز.

واذا كانت الحكومة الجديدة مصرّة على طمأنة الناس وكسب ثقتهم في مسألة محاربة الفساد وقطع يد الفاسدين، عليها ـ من باب أولى- إلقاء القبض على الفاسدين أينما كانوا وعرضهم على شاشة التلفاز، فهو أشدّ تأثيراً في النفوس من مشهد الاوراق النقدية المكدسة.  

وفي كل الاحوال؛ الناس تئن من سوط الفساد ليس ممن يسرق الملايين، نعم؛ إنه يلحق الضرر بالاقتصاد العراقي بشكل عام، بل اكثر من هذا؛ عندما يتهاون المعلم والمدرس واستاذ الجامعة عن أداء دوره التعليمي بشكل صحيح، وعندما يرى الطبيب مرضاه كأرواق نقدية! وسائر الموظفين في دوائر الدولة التي يتفق الناس جميعهم على دور الرشوة في تمشية معظم معاملاتهم، فهي أعمال فساد صغيرة وغير منظورة، لكنها منتشرة مثل خلايا السرطان في الجسم.

ولا أنسى الاشارة –قبل الختام- الى ملف المولدات الأهلية، التي أرى أنها حالة مرضية مزمنة يسعى الناس التعايش معها والسكوت عليها!

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا