ثقافة رسالية

من يجد الهوية الضائعة؟

لعل من أعظم المصائب التي قد تصبح عليها هي فقدانك لهوية الأحوال المدنية (الجنسية)، فإنك تمسي مواطناً وتصبح غريباً، تضرب أخماساً بأسداس مؤملاً نفسك العثور عليها في …

لعل من أعظم المصائب التي قد تصبح عليها هي فقدانك لهوية الأحوال المدنية (الجنسية)، فإنك تمسي مواطناً وتصبح غريباً، تضرب أخماساً بأسداس مؤملاً نفسك العثور عليها في مكان ما، إذ أن استخراج “بدل ضائع” سيكلفك الكثير من المال والجهد والوقت، فضلاً عن كونك حتى ذلك الحين، ستكون ممنوعاً من الدخول الى أي دائرة رسمية لتمشية معاملة خاصة بك.
وبعد أن تُغلق نوافذ الأمل بالعثور على هذه “الهوية”، لا مناص من اللجوء إلى الإجراءات القانونية لإعادة إصدارها من جديد، فتبدأ بالإبلاغ عن فقدان الهوية في مركز الشرطة، ثم تأخذ طريقك الى قاضي التحقيق في المحكمة، حتى تحين تلك الساعة التي تخرج منها من دائرة الأحوال المدنية وبيدك المستمسك الجديد وأنت تتصبب عرقاً، لكنك بالرغم من كل ذلك تخرج فرحاً مسروراً باسترجاع “هويتك” من جديد!
لكن السؤال: إذا كانت دائرة الأحوال المدنية هي من تعيد الهوية التعريفية للناس، فمن المسؤول عن إعادة الهوية الدينية والوطنية والأخلاقية للناس؟!
كما أن من يفقد هويته التعريفية يكون تائهاً لا يمكنه إنجاز أبسط معاملة إدارية، فإن من يفقد هويته الدينية والوطنية والأخلاقية يكون بالتأكيد تائهاً، و كما عبّر القرآن الكريم عنه: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}، فتراه تارة يشرّق وأخرى يغرّب.
والحقيقة أن ما نعانيه اليوم عند الكثير ـ وعند طبقة الشباب خاصةـ هو فقدانهم لهذه الهوية، والدليل على ذلك ليس بالأمر الصعب فدونك الفيسبوك! تجد أحدهم يتطرف دينياً بمنشوراته، لكن تراه ايضاً يُعجب بطُرفة تثير الاستهزاء بالدين بطريقة خبيثة.
وإذا ما تابعت كتاباته وتعليقاته ستجد هويته موزعة على: إسلامي، ليبرالي، بعثي، شيوعي!!
فمن المؤسف جداً أن أجواء الحرية والانفتاح بعد عام الفين وثلاثة، بدل أن تستثمر في سبيل بناء ثقافي رصين للجيل الواعد، استغلت من قبل المنتهزين في سبيل مسخ الهوية، ليس من خلال إقناع الشخص بقناعة جديدة، وإنما في سبيل تضييع الهوية التي يحملها فحسب!
لنعود إلى السؤال:
إذن من المسؤول عن إعادة الهوية لهؤلاء؟
الحقيقة أن المسؤولية الأولى تقع على الأشخاص أنفسهم، فلابد لكل شخص أن يقف يوماً ما ليسأل نفسه عن قناعاته وما يؤمن به، فالإيمان مسؤولية الفرد نفسه بالدرجة الأولى، فكما لا يمكن أن يستغني الفرد عن الطعام، لأن الآخر يأكل ايضاً، كذلك لا يمكن أن يعير الشخص فكره وعقيدته للآخر ليفكر ويعتقد بدلاً عنه، ولذا نجد أن الفقهاء منعوا من التقليد في العقائد، وقبلهم؛ القرآن الكريم، فكم أكد على ضرورة التعقّل والتفكّر والتدبّر!
لكن ثمة مسؤولية أخرى تقع على النخبة، فإنها تتحمل هي الأخرى المسؤولية في إعادة هذه الهوية الضائعة عبر الرصد والنشر والتصدي.
أما الرصد فهي المهمة الأولى برصد أهم ما يثار في ساحة الفكر والثقافة وكشف الثغرات التي يحاول هؤلاء من خلالها النفوذ والتأثير.
وأما النشر، فإن على النخبة أن لا تقصر في نشر المعتقدات والأفكار الصحيحة، فلا يتركوا الساحة خالية لكل من يهبّ ويدبّ، خصوصاً في هذه الأيام حيث نمتلك المنابر والشعائر المؤثرة، فعلى الطليعة أن لا تسمح لكل من هب ودب، من خلال استغلال هذه المنابر، بل تكون على أتم الجهوزية لاستغلال أي مناسبة لنشر الوعي والثقافة.
وأما التصدي فيتم من خلال منصّات الحوار والمنتديات، بل والمشاركة الفاعلة في مختلف الأنشطة الدينية والثقافية.
وبذلك تتكامل المسؤولية بين الفرد والنخبة لاستعادة الهوية الضائعة!

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا