المرجع و الامة

المرجع المدرسي في تدبراته لسورة القيامة: الانسان الذي لا يؤمن يشكك بيوم القيامة

تدبرات في سورة (القيامة) شهر رمضان المبارك / 1440 هـ – (الثاني)

“أَيْنَ الْمَفَرُّ”

بسم الله الرحمن الرحيم
[بَلْ يُريدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ‏ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6)فَإِذا بَرِقَ‏ الْبَصَرُ (7)وَ خَسَفَ‏ الْقَمَرُ (8)وَ جُمِعَ‏ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9)يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)كَلاَّ لا وَزَرَ (11)إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ] (12)
صدق الله العلي العظيم

تفصيل القول
خِلقة البشر بالغة التعقيد، وفيها مجموعة كبيرة من المؤثّرات المتناقضة، فمن جهة العقل والعلم والوجدان، ومن جهة اخرى الشهوة والجهل، كما يقول ربّنا تعالى:[وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ‏ءٍ جَدَلاً][1] أي تعقيداً، ولأنّه كذلك، لابدّ من الاستفادة من مؤثّرات مُختلفة من أجل اصلاحه، فليس كلّ امراض البشر سواء، وبالتالي السبيل الى اصلاحها ايضاً مختلف.
فالمشكلة عند الانسان قد تكون عقلية، بأنّه لم يدرك الحقائق، وقد تكون نفسية بالتكبّر والطغيان، وقد تكون المشكلة في ضعف الارادة، أو الخوف والتردد، وما اشبه، وفي القرآن الكريم علاجٌ لكلّ الوان الانحراف عند البشر، فتراة يُذكّر الانسان باستدلال عقلي فيقول:[قُلْ يُحْييهَا الَّذي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ][2] وتارة يعالج مشكلة الطغيان حينما يذكر مصير الطغاة كأفراد كفرعون ونمرود، او امم، كعادٍ وثمود، يقول تعالى: [أَوَلَمْ يَسيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ][3] وتارة يُعالج ضعف الارادة في مواجهة التحدّيات، فيأتي بذكر آسية بنت مزاحم التي تحدّت كلّ ألوان الضغوط وقالت: [إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لي‏ عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّني‏ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّني‏ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ][4] وبيّن ربّنا ايضاً عاقبة من طغى من جهة، وعاقبة من اتّبع الهدى من جهة أخرى ليكون عبرة لنا وحجّة علينا.

واعظٌ من نفسه
ونستفيد من ذلك أيضاً أنّ الانسان في وعظه لنفسه أيضاً لابدّ من تنوّع الاساليب، فيحدّث نفسه بالطاعة، ويُذكّر نفسه بالعقاب، ويشوّقها بالثواب، و..الخ
وهذا ما نتعلّمه من سيّدنا العباس عليه السلام كيف خاطب نفسه في يوم عاشوراء قائلاً:

يا نفس من بعد الحسين هوني‏ من بعده لا كنت أن تكوني‏
هذا حسين شارب المنون‏ و تشربين بارد المعين‏
هيهات ما هذا فعال ديني‏ و لا فعال صادق اليقين‏[5] ليفجر أمامه

في هذه السورة المُباركة وبعد أن حدّثنا ربّنا عن المحكمة الالهية، يُبيّن سبب عدم ايمان الانسان بها فيقول:
[بَلْ يُريدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ] أنّ الكلمة بمعناها الأصلي و هو الشق و التحطيم، و إنّما سمّي الفجر فجرا لأنّه يشقّ الظلام و يحطّمه، و الفجور في الأخلاق و السلوك مثل ذلك، حيث أنّ الفاجر لا يلتزم بقيمة و لا قانون، بل يشق عصا المجتمع و الشرع باقتحام اللذات و الخطايا، و لا يريد أمامه شيئا يعيقه أبداً، ومعنى ذلك أنّ الانسان وبسبب اتباعه للهوى وتجاوزه للحدود لا يؤمن بيوم القيامة فتراه يقول:

[يَسْئَلُ أَيَّانَ‏ يَوْمُ الْقِيامَةِ] كلمة أيّان تجمع بين السؤال عن الزمان والمكان، والانسان الذي لا يؤمن وبسبب اتباعه للهوى، يشكك بيوم القيامة، ومن هنا يأتي السياق القرآني بكلمة صاعقة لتكشف الحُجُب المتراكمة على قلب الانسان، يقول ربّنا تعالى: [فَإِذا بَرِقَ‏ الْبَصَرُ] لأنّ البصر نافذة روح الانسان، ويُمكن فهم حالات الانسان المُختلفة من خلال بصره، يُعبّر القرآن عن حالة البشر في ذلك الحين حيث التحيّر من شدّة الفزع.

[وَ خَسَفَ‏ الْقَمَرُ] يفقد القمر نوره، ويذهب ضوءه من تلقاء نفسه لا بشيء خارجي.
[وَ جُمِعَ‏ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ] ربّما يكون ذلك بسبب انتهاء نظام الجاذبية الحاكم على المنظومة الشمسية.
[يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ] إنّما يكشف القرآن للإنسان مشاهد الآخرة حتى يزرع التقوى في نفسه فيضع بذلك حدا لفجوره و غروره، و لأنّ المعرفة بالمستقبل و الإيمان بحقائقه يخلّف توازنا في مسيرته الدنيوية الحاضرة، فهو إنّما يفجر زعما منه بأن سيجد مهربا من المسؤولية.
جاء في الحديث عن العالم أنّه قال لابن ابي العوجاء: ((إِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ وَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ نَجَوْنَا وَ نَجَوْتَ‏ وَ إِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وَ هُوَ كَمَا نَقُولُ نَجَوْنَا وَ هَلَكْتَ فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَلَى مَنْ مَعَهُ فَقَالَ وَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَزَازَةً فَرُدُّونِي فَرَدُّوهُ فَمَاتَ لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.))[6]

نعم لا مفرّ من أمر الله.
[كَلاَّ لا وَزَرَ] أي المأوى والملجئ، حيث كان الناس يلجأءون الى الجبل في الحروب، ولكن في يوم القيامة لا ملجئ ولا منجى الّا اليه.
[إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ] والآية فيها زجرٌ و تحذير، وفيها ايضاً جانب الرحمة ولذلك جاء استخدام كلمة الرب، فهو الذي ربّاني كلّ آن و رعاني في مختلف الحالات والظروف، سيكون اليه المستقر، ونحن علينا أن نهرب اليه سبحانه.
_________________________________
[1] سورة الكهف، الآية54.

[2] سورة يس، الآية 79.

[3] سورة الروم، الآية 9.

[4] سورة التحريم، الآية 11.

[5] شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار عليهم السلام، ج‏3، ص: 192.

[6] الكافي (ط – الإسلامية)، ج‏1، ص: 78

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا