المرجع و الامة

المرجع المدرسي يبين بأن الإحتياج والفقر من المخلوق، وديمومية العطاء من الباري تعالى

تدبرات في سورة (الانسان) شهر رمضان المبارك / 1440 هـ – (اليوم العاشر)

“مُلْكاً كَبيراً”

بسم الله الرحمن الرحيم
[وَ يُسْقَوْنَ فيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبيلاً (17) عَيْناً فيها تُسَمَّى سَلْسَبيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ‏ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعيماً وَ مُلْكاً كَبيراً] (20)
صدق الله العلي العظيم

تفصيل القول
كان الله ولم يكن معه شيء ثم كوّن الاشياء لا من شيء، لا لحاجة منه اليهم لأنّه غني عنهم وكما قال ربّنا تعالى: [ما أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ‏ وَ ما أُريدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ‏ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتينُ][1] فالإحتياج والفقر من المخلوق، وديمومية العطاء من الباري تعالى، ولو تأمّلنا في ذلك سنجد أنّ كلّ المخلوقات هي في الواقع تجلّيات لرحمة الله تعالى وغناه وعزتّه بل وسائر اسماءه، لماذا؟ لأنّنا لو افترضنا انقطاع الفيض الالهي عن المخلوقات آناً ما، فإنّها ستعود عدماً كما كانت.
ويتوقّف علم الانسان بمعرفة السبب ليبدء دور العقل بمعرفة المُسبّب، فما من معلول الّا و لابدّ له من علّة.
خلقة البشر أيضاً لا تختلف عن سائر المخلوقات الّا أنّ التعبير القرآني جعل من الرحمة هدفاً لخلقة البشر خاصّة حيث يقول ربّنا تعالى: [إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ‏][2] وطريق ذلك هو العبودية التي قال عنها ربّنا تعالى: [وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏][3] ولو تأمّلنا في آيات القرآن الكريم سنجد أنّ كلّ المخلوقات تُسبّح ربّها وتُصلّي اليه، وبذلك ديمومية وجودها، يقول ربّنا تعالى: [تُسَبِّحُ‏ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً][4] ويقول تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبيحَهُ‏ وَ اللَّهُ عَليمٌ بِما يَفْعَلُونَ][5]

بين الصلاة والتسبيح
اصل الصلاة هو الدعاء والصِلة بالله تعالى، و اصل التسبيح أيضاً التنزيه والدعاء أي أنّنا حينما نُنّزه الباري تعالى من النقص ندعوه تعالى باعطاءنا المزيد من النعم من عنده، ومن هنا كما أنّ كلّ المخلوقات تتكامل بالتسبيح والصلاة، هكذا يتسامى الانسان عبر التسبيح والصلاة.
ونستفيد من الآيات الكريمة أنّ العلاقة التي تربطنا بسائر المخلوقات أيضاً لابدّ أن تكون ايجابية، و في ذلك روايات كثيرة، من التعامل المسؤول مع البيئة وكلّ المخلوقات الإلهية وعدم الإفساد في الأرض، بعكس ما نجده في عالم اليوم حيث النظرة العدائية التي جاء بها الفلسفة البشرية، والتي تجعل البشر في مقابل الطبيعة، وكلّما ازداد البشر افساداً في الأرض كلّما ابتلي بالكوارث الطبيعية.
وربّما يفقه بعض الكُمّلين تسبيح المخلوقات في الدنيا، الّا أنّ الجنّة خُلقت بحيث يفقه المؤمن تسبيح المخلوقات ويحدّثونه ويُحدّثهم.
ففي الرواية في وصف الطير في الجنة يقول النبي صلّى الله عليه وآله: ((فَإِذَا تَمَنَّى مُؤْمِنٌ مُحِبٌّ لِلنَّبِيِّ وَ آلِهِ الْأَكْلَ مِنْهَا، وَقَعَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَنَاثَرَ رِيشُهُ وَ انْسَمَطَ وَ انْشَوَى وَ انْطَبَخَ، فَأَكَلَ مِنْ جَانِبٍ مِنْهُ مَشْوِيّاً بِلَا نَارٍ فَإِذَا قَضَى شَهْوَتَهُ وَ نَهَمَتْهُ- وَ قَالَ: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏]، عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَطَارَتْ فِي الْهَوَاءِ، وَ فَخَرَتْ عَلَى سَائِرِ طُيُورِ الْجَنَّةِ، تَقُولُ:
«مَنْ مِثْلِي وَ قَدْ أَكَلَ‏ مِنِّي‏ وَلِيُّ اللَّهِ عَنْ أَمْرِ اللَّه‏»[6] وهكذا الفواكه ايضاً وسائر المخلوقات، يقول تعالى:
[وَ يُسْقَوْنَ فيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبيلاً عَيْناً فيها تُسَمَّى سَلْسَبيلاً] و الزنجبيل يعطي ما يمزج إليه نكهة طيّبة، كما أنّه بذاته فيه فوائد كثيرة، ولكن ليس طعمه الحاد بل طعمه السلسبيل وهو الشراب السهل اللذيذ.
[وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ‏] يبدو لي أنّ «مخلّدون» بمعنى أنّهم يبقون على نضارة الغلام دائما لا يتداركهم شباب و لا هرم، و إنّما يبقيهم اللّه كذلك لأنّ خدمة الصغار على هذا السنّ ألذّ لأهل الجنة من خدمة غيرهم، و الولدان في تطواف دائم يترقّبون أمر المؤمنين لهم، على استعداد تامّ لخدمتهم، بل أنّ مجرّد تطوافهم أمامهم يبعث فيهم البهجة و السرور، لما يمثّله الولدان من نعمة الخدمة، و لمنظرهم الأنيق و الجميل.
[إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً] قال العلامة الطبرسي: إنّما شبّههم بالمنثور لانتثارهم (و توزّعهم) في الخدمة، فلو كانوا صفّا لشبّهوا بالمنظوم‏. كما أنّ للؤلؤ حينما ينثر منظرا رائعا في الجمال، و الجاذبية خصوصا في المروج الخضراء.
‏ [وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعيماً وَ مُلْكاً كَبيراً] و حتى نفهم معنى كلمة «كبيرا» يجب أن ننظر إليها على أساس أنّها تعبير عن أربعة أمور، هي: الكثرة، و الحجم، و التنوّع، و العظمة. و تكرار كلمة «رأيت» يأتي لبيان أنّك مهما تكرّر بنظرك و تعيد الرؤية فإنّك لا تستطيع أن تصل إلى حدّ ملك الأبرار من النعيم في الجنة، و إنّما تعلم بصورة مجملة أنّه نعيم و ملك كبير.
و كفى به عظمة وسعة أنّه يزداد مع الزمن بفضل اللّه و كرمه المتتابع على أهل الجنة.
_____________________________
[1] سورة الذاريات، الآيتان: 57,58.

[2] سورة هود، الآية: 119.

[3] سورة الذاريات، الآية:56.

[4] سورة الإسراء، الآية: 44.

[5] سورة النور، الآية 41.

[6] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، ص: 441.

.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا