إضاءات تدبریة

هل ننتقل من التفسير الى التدبر؟

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}

لقد تقاطرت آيات القرآن الكريم الله كالغيث الهاني على الارض ساعيةً – يما أوتيت من سبيل ـ أن تجعل من الانسان عموماً وقارئ القرآن خصوصاً قارئاً متأملا ومتدبراً يفكر في الاشياء والاقوال  والافكار والمواقف من حوله، فالقرآن الكريم حيث تناوله المفسرون من عهد الائمة عليهم السلام الى يومنا هذا وحيث التفسير يهتم به اهل العلم، والاختصاص به، ولا يستطع اي شخص ان يفسر القرآن الكريم برايه مالم يكون ملم بعلومه، واحاطة تامه به؛بينما التدبر اتى الى كافه الناس حيث يستطيعون ان يتدبروا بآيات الله سبحانه وتعالى ولم يحدد بفئة معينه، وهنالك من يخلط بين مصطلح التفسير والتدبر، بينما هناك فرق جوهري بينهما من حيث الاسلوب والطرق والمناهج المتبعة لكل منهما.

 

ذكر ابن منظور في لسان العرب ان معنى التدبر في الشيء هو: “التفكر فيه”. وبهذا يكون معنى التدبر في القرآن الكريم: التفكر فيه ومعرفة معانيه و مراداته

 

حيث أن التدبر يستطيع أي شخص سواء كان عالماً او غير عالم ان يطّلع على آيات القرآن الكريم ويتمعن فيهن ويرى اسرار وعجائب مكنون الخلق في آيات الله سبحانه،  و ذلك ما يحثنا القرآن الكريم عليه، وكذلك اهل البيت عليهم السلام، على التدبر في التمعن في آيات الله عز وجل، روى الصّدوق في الخصال بسنده إلى نَوف البَكالي قال: بِتُّ عند أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام فكان يُصلّي اللّيل كلَّه، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السّماء ويتلو القرآن. (الخصال 337:1)

 

  • التفسير والتدبر

تأتي مفردة (التفسير) ـ في مدلولها ـ بمعنى : “الإبانة”، و “كشف المراد عن اللفظ المشكل”. وهو عملية إظهار وإبراز للمداليل القرآنية، وكشف للمعاني القرآنية المخبوءة في الألفاظ، وتوضيح مراد الألفاظ لاسيما مشكلة الفهم أو صعبة الفهم.

أما عن المقصود بتفسير القرآن الكريم في الاصطلاح:

1- فقد عرفه الزركشي (بدر الدين محمد بن عبد الله) بأنه: “علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة، والنحو والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ”.2

فالتفسير (علم)، وليس مجرد نظرية أو منهج، وموضوعه القرآن الكريم، ويستهدف فهمه وبيان معانيه وأحكامه وحكمه، لكشف مراد الله تعالى فيه، وتنصرف كلمة (معانيه) ـ غالبًاـ إلى ما تكتنزه الألفاظ من مداليل وأفكار ورؤى، بينما تنصرف كلمة (أحكامه) ـ غالبًاـ إلى الجانب التشريعي منه، وكلمة (حكمه) إلى الجانب الأخلاقي، وعليه فالتفسير علم شامل يستهدف إبراز مراد الله والمحتوى القرآني سواء أعاد للأفكار والرؤى أم للتشريعات الأحكام، أم للأخلاق والقيم.

2- وقد عرف في مجمع البيان بانه:  “كشف المراد عن اللفظ المشكل “.

3- وفي البرهان على انه: “هو علم نزول الآية ومحكمها ومجملها ومتشابها وناسخها ومنسوجها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها وزاد قوم على حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وامرها ونهيها  وعبرها وامثالها”.

4- كما عرفه في البيان بانه: “إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز”.

ويستهدف التفسير تبيان الصورة العامة للآية،بيد ان دراسة هذا الظاهر للنفاذ للباطن ( السنن العلمية)وهو هدف التدبر، لذا فان التفسير يهتم بالتحليل اللغوي أكثر مما سواه، و يأتي التدبر من بعده لأنه ينطلق إلى السنن الكامنة وراء ظاهر الاية.

 

  • ما هو التدبر في القرآن الكريم

عندما نريد التعرف على المعنى اللغوي التي تشتمل عليها كلمة (التدبر) نجدها تحمل معاني واسعة تعود جذورها إلى التفكر والتأمل.

فقد ذكر ابن منظور في لسان العرب ان معنى التدبر في الشيء هو: “التفكر فيه”. وبهذا يكون معنى التدبر في القرآن الكريم: التفكر فيه ومعرفة معانيه و مراداته.

ورأى الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب في (القاموس المحيط) أن التدبر هو: “النظر في عاقبة الأمر، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، أي ألم يتفهموا ما خوطبوا به في القرآن الكريم، وعلى هذا التوضيح يكون معنى التدبر في القرآن الكريم: معرفة عواقب الأمور من لزوم العمل بمفاد الآيات ونتائجها. وقريب منه ما ذكره الطريحي (الشيخ فخر الدين بن محمد) في (مجمع البحرين) من أن (التدبر): “هو النظر في أدبار الأمور وتأملها.

ومركز الاهتمام في تعريف ابن منظور من جهة، وتعريف الفيروز آبادي والطريحي من جهة ثانية فيه شيء من الاختلاف، فالأول يجعل التدبر علمية تسلط الضوء على الشيء ذاته (التفكر فيه)، بينما الآخران يكثفان نقطة الضوء على العاقبة والأول والمشارفة وما ينتهي له الأمر (عاقبة الأمر؛ إدبار الأمور)، والمعنيان متكاملان، فالتدبر يسلط الضوء على الشيء ليعرفه، ومن ثم يعرف عاقبته ومآله، ليستفيد من الامرين معاً.

فالتدبر إعمال عميق للعقل في القرآن للحصول على الهدي الإلهي، واستخراج الأفكار، وبناء الموقف.

 

  • الفرق بين التفسير والتدبر:

حين نقارن بين القيام بعملية (التفسير) وعملية (التدبر) نشهد أن الاحاديث  حثت على ألا يخوض عمار التفسير من لم يكن  يملك زمام إمكاناته، ومن ثم فهو مقتصر على فئة خاصة، بينما أمرت الآيات على التدبر للجميع فقد جاء في الحديث القدسي: “ما آمن بي من فسر برأيه كلامي”، كما الحديث عن  الرسول صلى الله عليه واله: “أكثر ما خاف على امتي من بعدي رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه”، الذي يتخوف فيه من الذين يخوضون في معاني القرآن، ويصرفونها الى غير مصارفها الصحيحة، وقول الامام الصادق عليه السلام :”من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر،وإن أخطأ فان إثمه عليه”.( بحار الأنوار 89/110، الباب 10،ح11).

وعلى الطرف الاخر جاءت الدعوة للتدبر في القرآن  وإعمال النظر في آياته ورؤاه موجهة لكل الناس {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.

إننا بحاجة ماسة الى التدبر في آيات القرآن الكريم، لأن هذه الآيات تمثل النور للسالك في الظلام الحالك، ونحن إذ نواجه كثير من الضغوط النفسية والاجتماعية، فإنا حاجتنا الى التدبر مهمة للغاية، لنتبصر الأحداث من حولنا بالفهم القرآني، الذي يحمل في طياته بعض الحِكم والغايات للسنن الإلهية الحاكمة.

عن المؤلف

عبد الستار الحسني

اترك تعليقا