حدیث الناس

بين أجساد القتلى يفرح الناس طرباً!!

مدينة كربلاء تميزت عن عديد مدن العالم الشهيرة بأن على أرضها جرت معركة تاريخية فاصلة بين الحق والباطل، ومن أجل قيم ومبادئ عظيمة لم يشهد التاريخ أنهما كانتا يوماً بقيمة أن يضحي من أجلها شخصٌ مثل الامام الحسين، وهو آخر ابن بنت نبي على وجه الأرض، ومع مرور الزمن تحولت الى مركز استقطاب علمي ثم ثقافي و فكري، وحتى سياسي، فكانت المخرجات استثنائية؛ فالغني الرأسمالي يتاجر فيها بارباح وافرة، والفقير يعيش مطئمناً بأحسن حال، والعالِم يكتسب علومه أكثر عمقاً وشمولية، والاشتراكي الداعي للمساواة والمتبرّم من البرجوازية والتمييز، يجد أن ثورة الامام الحسين، هي ثورته ولسان حاله ووجدانه، والسياسي يجد في تشييده القباب الذهبية وال مباني الفخمة، وتأثيث المراقد بأروع الانارات وتجميلها بالتزجيج وغيرها، مما يكسبه المقبولية الاجتماعية احياناً، والشرعية السياسية احياناً اخرى، فهي ملتقى الأعراق والأجناس والقوميات والافكار وحتى الطوائف والديانات.

كل أولئك المختلفين والمتنوعين كانوا يفهمون ويؤمنون بأن هذه الارض التي يمشون عليها إنما هي أرض معركة دامية بمساحة واسعة ربما تكون اليوم بنصف مركز المدينة القديمة حيث كانت الخيول تجول وتصول بسرعة فائقة تطيح خلالها الرؤوس وتقطع الأيدي وتتناثر الرماح والسهام وتتمزق الأشلاء، لذا كانت العيون تتجه الى مرقد الامام الحسين، وأخيه أبو الفضل العباس، عليهما السلام، لا غير، والجميع يفكر بالزيارة قبل أي شيء آخر.

ولكن!

مع مرور الزمن بدأت هذه الأرض تشهد تسلل أناس بسلوكيات لا يفهمها أبطال المعركة، فهم ليسوا من سنخ البطولة، والتضحية، والإباء، والمفاهيم الانسانية الراقية، انما هي عبارة عن افرازات لحالات نفسية خاصة تدفع اصحابها للظهور لتفريغ المكبوت والمقموع في مكامن النفس، فالقضية ليست في مظاهر الفرح والابتهاج، فالأئمة يصفون شيعتهم بأنهم “يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا”، إنما في تجاهل ـ لنقل نسيان- طابع الارض التي نقف عليها ونتحدث بما نريد، ونفعل ما نشاء.

 

قبل ان نغضب على الراقصين في أي مناسبة بمدينة كربلاء المقدسة، علينا التوقف قليلاً وإلقاء نظرة خاطفة على واجهات المحلات التجارية لاسيما الخاصة بالالبسة النسائية، ولوحات الإعلان لصالونات التجميل، ثم الى طبيعة الملابس المستحدثة والمثيرة للفتيات والنساء

 

وما يحصل في هذه المدينة، وفي سائر المدن المقدسة من مظاهر الابتهاج والفرح بشكل مبالغ به، وبغض النظر عن المناسبة، أنما يبعث عن الأسف اكثر مما يجب ان يثير الغضب، لان الذين يرقصون في شوارع كربلاء إنما هم ضحايا الكبت والجهل، كما هم يصرحون بأنفسهم بأنهم لا يبغون سوى “التنفس” والخروج من أجوائهم الخانقة، تدفعهم ضغوطا اجتماعية وفشل أسري ـ أحيانا ـ مع بطالة وكآبة ويأس أفرزها الأداء الفاشل للحكم، ولا ينحصر الأمر في أعياد رأس السنة الميلادية، إنما علينا الالتفات على سائر أيام السنة، لاسيما في مراسيم الزفاف، فالكثير ممن يرقص في الزفاف ربما لا يمتّ بصلة قريبة الى العريس، مثل الأخ او ابن العم او ابن الخال، بل ربما يكون صديق الصديق! إنها فرصة ذهبية للترفيه عن النفس.

وقبل ان نغضب على الراقصين في أي مناسبة بمدينة كربلاء المقدسة، علينا التوقف قليلاً وإلقاء نظرة خاطفة على واجهات المحلات التجارية لاسيما الخاصة بالالبسة النسائية، ولوحات الإعلان لصالونات التجميل، ثم الى طبيعة الملابس المستحدثة والمثيرة للفتيات والنساء، وايضاً لبعض الشباب بالقرب من مرقد الامام الحسين، وأخيه أبي الفضل العباس، عليهما السلام، واجدني ملزماً باستعادة ذكريات
“الماضي الجميل” عندما كنت أرى بأمّ عيني كيف أن المرأة القادمة من بغداد ما ان تضع قدمها في ارض كربلاء عند ساحة باب بغداد ـ غير الموجودة في التصميم الحالي- حتى تخرج العباءة السوداء من حقيبتها وتلبسها، حتى لا تكون نشازاً بين نساء المدينة، هذه الذكرى تعود الى اواسط السبعينات من القرن الماضي، أما اليوم فاني أرى العجب العجاب في انحسار هذا الاحترام والبتجيل الى حد اسوار مرقد الامام الحسين فقط!

كان لدينا علماء دين أبطال وخطباء أشاوس ومثقفين من اهل الوعي والمسؤولية في هذه المدينة أيام زمان كانوا يقاتلون قتال الابطال ليعيدوا ملاحم أبطال الطف على نفس الارض، للحفاظ القيم الاخلاقية والدينية، وتعريف الناس بما يصلح لهم وما يسوؤهم، فكان الناس يعيشون الراحة النفسية والاطمئنان والسعادة ـ ولو بشكل نسبي- ولا أحد يتحدث عن الكآبة والعقد النفسية، وهذا كان بفضل جهود مرجع دين من نوع خاص لم تشهد له الحوزة العلمية نظيراً طيلة قرون من الزمن، وهو السيد محمد الشيرازي ـ طاب ثراه – الذي شكّل حوله منظومة إصلاحية وتنموية من العلماء والخطباء والمثقفين من أهل المدينة برعوا في نشر الوعي صياغة الثقافة الأصيلة في المجتمع الكربلائي، ثم انتشروا في الآفاق داخل وخارج العراق، فقد تنبّه منذ خمسينات القرن الماضي الى أن افراد المجتمع ـ أي مجتمع- يمثلون حاضنة للانحراف والطغيان والظلم، كما بامكانهم ان يكونوا حاضنة للصلاح والرُقيّ، فكان يرى في الرجل الفقير المتكفف على قارعة الطريق رقماً يقف الى ارقام اخرى ويترك أثراً في الحاضر والمستقبل، وهو ما حصل فعلاً، لان “هذا الانسان البسيط ربما ينقذك ويأويك، وربما يُرديك”، كما جاء في احدى محاضراته.

وقف المرجع الشيرازي الراحل مع ثلّة من العلماء والخطباء بوجه مواجات التضليل القادمة من الخارج، وربما استهلك هذا الجهود الجبارة، والبرامج المرسمومة لنشر وعي النهضة والتقدم، ويستذكر سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي ـ دام ظله – كيف أن أصوات قرقعة قطع الدومينو تعلو من المقاهي القريبة من حرم الامام الحسين في أيام المحنة، فكانت الجهود مصبّة من المرجع المدرسي والمفكر الشهيد السيد حسن الشيرازي والشهيد الخطيب الشيخ عبد الزهراء الكعبي، والخطيب المرحوم السيد كاظم القزويني، والخطيب السيد مرتضى القزويني ـ دام ظله – لتكريس قيم الدين والاخلاق والفضيلة بين الناس، فكلٌ حسب تخصصه وتوجهه، فالشهيد الشيرازي بأدبه الراقي، والمرجع المدرسي بتنظيمه خلايا الشباب، والشهيد الكعبي بمنبره الشجي والخالد، والمرحوم القزويني بمؤلفاته، والسيد القزويني بخطابته، مع أسماء لامعة لايسعنا المقام لذكرها، ربما أبرزهم من اصحاب الفضل؛ الخطيب البارع المرحوم الشيخ هادي الكربلائي، وايضاً السيد جاسم الطويرجاوي، ممن برعوا وابدعوا في أمر التربية الدينية والاخلاقية، وتعزيز مناعة المجتمع فكرياً وثقافياً.

 

كان لدينا علماء دين أبطال وخطباء أشاوس ومثقفين من اهل الوعي والمسؤولية في هذه المدينة أيام زمان كانوا يقاتلون قتال الابطال ليعيدوا ملاحم أبطال الطف على نفس الارض، للحفاظ القيم الاخلاقية والدينية

 

ولكن السؤال المحيّر الذي يقفز امامنا!

أين ذهبت كل تلك الجهود العظيمة والبطولات والتضحيات؟!

كما أشرنا سلفاً؛ أن المدرسة الرسالية لم تكن وسط واحة خضراء مليئة بالزهور والفراشات الجميلة، فاصحاب الفكر والبيان والقلم مدركون أنهم كانوا يقفون على رمال ملتهبة، كما كان أسلافهم يوم عاشوراء، فبدلاً من السهام والرماح والسيوف، كانوا يتعرضون هُم لشتى انواع الضغوط النفسية، والاتهامات، والسباب، والتسقيط، والتشكيك، حتى يقال أن المرجع الشيرازي كان يعترضه اشخاص في الطريق من بيته الى الحوزة العلمية، ويسمعونه كلمات الاستهزاء والتشنيع! فيما كان هو يواصل ابتسامته، مصراً على رد الإساءة بالاحسان كما علّمه القرآن الكريم، و يسلّم على كل من يلقاه في طريقه حتى وإن كان معارضاً وكراهاً له أشد الكُره.

كل هذا حصل في كربلاء المقدسة قبل اكثر من خمسين عاماً.

دائماً؛ البناء صعب، والهدم سهل، و”الخير يخصّ والشر يعمّ”، كما في المثل الشعبي، والاستجابة للغرائز والنزعات النفسية ألذّ وأقرب من تجشّم عناء التقوى والورع والعفّة، لذا كان لابد من تضافر الجهود الخيّرة والمخلصة لتغليب التقوى والورع وكل اشكال الفضيلة على كل اشكال الرذيلة التي لن تجد لها مكاناً في المجتمع، ولا حتى في نفس انسان، بينما اليوم نلاحظ العكس تماماً؛ تضافر الجهود والعقول والابداعات بالاتجاه المعاكس! وهذا ما نعده نتيجة طبيعية، فعندما يكون المصلح شخصاً واحداً، او آحاداً بين الآلاف فلا ننتظر أفضل مما نراه.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا