أسوة حسنة

فاطمة الزهراء ومعيار الإختيار الصحيح

لماذا نرى أن البعض يرتقي والآخر يتسافل؟

لماذا نرى أن أحدهم ينجح والآخر يفشل؟

لماذا نرى أن بعض النساء بالرغم من قربها المادي من رسول الله تصبح عدوة لله، بينما نرى الصديقة الزهراء سلام الله عليها في هذا المكان العلي، حيث تصبح المحور في هذا الدين، فعن سلمان الفارسي أنها عليها السلام جائت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، في مرضه الذي توفي فيه، فلما رأت ما برسول الله من المرض و الجهد استعبرت و بكت حتى سالت دموعها على خديها، فضمها رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: “يَا بُنَيَّةُ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ أَعْطَانَا اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ سَبْعَ خِصَالٍ لَمْ يُعْطِهَا أَحَداً مِنَ الْأَوَّلِينَ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ لَا يُعْطِيهَا أَحَداً مِنَ الْآخِرِينَ غَيْرَنَا: نَبِيُّنَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَ هُوَ أَبُوكِ وَ وَصِيُّنَا سَيِّدُ الْأَوْصِيَاءِ وَ هُوَ بَعْلُكِ وَ شَهِيدُنَا سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَهُوَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ هُوَ عَمُّ أَبِيكِ..، ابْنَاكِ حَسَنٌ وَ حُسَيْنٌ سِبْطَا أُمَّتِي وَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنَّا وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً”.

فاطمة سلام الله عليها هي المحور، وهي التي لولاها لما خلق الله من لولاه لما خلق الأفلاك.

 

الانسان يبلغ الكمال بحسن إختياره، ومن هنا فإنه تعالى أنذر وبشّر، وبعث الرسل وتواتر الكتب بل وأرسل معهم الميزان وأنزل الحديد، وأخذ الناس بالبأساء والضراء، لكي يتضرّعوا وتتكامل رؤيتهم، وينمو علمهم وتتحسّن أخلاقهم فلا يكون تكامل الإنسان ورقيه إلا بسعيه وإختياره الصحيح

 

  • الإختيار أعظم نعم الله

لا ريب أن من أعظم نعم الله تعالى هي نعمة الحرية، والاختيار، حتى أن هذا المخلوق الضعيف المهين، الذي خلق من نطفة مهينة، يخاصم رب العباد، يقول تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصيمٌ مُبينُ‏}، حتى وصل به الأمر إلى أن ينكر خالقه ورازقه بل أنكر معاده بعد مماته: {وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَميم‏}.

فالانسان يبلغ الكمال بحسن إختياره، ومن هنا فإنه تعالى أنذر وبشّر، وبعث الرسل وتواتر الكتب بل وأرسل معهم الميزان وأنزل الحديد، وأخذ الناس بالبأساء والضراء، لكي يتضرّعوا وتتكامل رؤيتهم، وينمو علمهم وتتحسّن أخلاقهم فلا يكون تكامل الإنسان ورقيه إلا بسعيه وإختياره الصحيح.

كل واحد منا يختار في حياته أمور كثيرة، فهو يختار طعامه وثيابه وسكنه، وأصدقائه وزوجته بل ويختار طريقة عيشه وما يدرس وما يرى وما يسمع.

يريد أن يدرس يختار الفرع الذي تميل اليه نفسه، ويجد فيه مواهبه وقدراته، أو يريد أن يتزوج، فيختار الزوجة التي تناسبه، أو يريد أن يسافر، فيختار المكان والوسيلة المفضلة لديه.

ولكن ما هو ملاك الإختيار الصحيح؟ لأن المشكلة أن الكثير من البشر يختار الطريق الخاطئ، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.

 

  • الخطأ في المعايير

مشكلة الناس في اختيار المعايير، فإن خطأ المعيار يؤدي بهم إلى سوء الإختيار، وقبل أن أبين هذه المعايير الخاطئة لا بأس بنقل حديث قدسي، يبين لنا كيف أن الكثير من الناس يخطئ الطريق بمعياره الخطأ يقول الحديث: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ وَضَعْتُ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ وَ النَّاسُ يَطْلُبُونَهَا فِي خَمْسَةٍ فَلَا يَجِدُونَهَا”.

الأول: “وَضَعْتُ الْعِلْمَ فِي الْجُوعِ وَ الْجَهْدِ وَ هُمْ يَطْلُبُونَهُ فِي الشِّبَعِ وَ الرَّاحَةِ فَلَا يَجِدُونَهُ”.

الثاني: “وَضَعْتُ الْعِزَّ فِي طَاعَتِي وَ هُمْ يَطْلُبُونَهُ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ فَلَا يَجِدُونَهُ”.

الثالث: “وَضَعْتُ الْغِنَى فِي الْقَنَاعَةِ وَ هُمْ يَطْلُبُونَهُ فِي كَثْرَةِ الْمَالِ فَلَا يَجِدُونَهُ”.

الرابع: “وَ وَضَعْتُ رِضَايَ فِي سَخَطِ النَّفْسِ وَ هُمْ يَطْلُبُونَهُ فِي رِضَا النَّفْسِ فَلَا يَجِدُونَهُ”.

الخامس: “وَ وَضَعْتُ الرَّاحَةَ فِي الْجَنَّةِ وَ هُمْ يَطْلُبُونَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِدُونَهَا”.

هل رأيت أحداً غير مبتلى في هذه الدنيا، في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام: “دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وَ بِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَ لَا يَسْلَمُ نُزَّالُه”.

 

إن الإنسان كثيراً ما يخطئ في المعايير، فلو سألته بعد حين هل تعود إلى ما فعلت لو عاد بك الزمن؟ يقول كلا، هل تتزوج هذه المرأة التي تزوجتها مثلاً، يقول كلا.. راجعو المحاكم لتجدو شاهد صدق على ما أقول، لكن الأمر بالنسبة للدنيا هين، لأنها فانية، إلا أن المشكلة الكبيرة في الإختيار الذي يرجع إلى دين الإنسان ومصيره

 

ومن هنا فإن الإنسان كثيراً ما يخطئ في المعايير، فلو سألته بعد حين هل تعود إلى ما فعلت لو عاد بك الزمن؟ يقول كلا، هل تتزوج هذه المرأة التي تزوجتها مثلاً، يقول كلا.. راجعو المحاكم لتجدو شاهد صدق على ما أقول، لكن الأمر بالنسبة للدنيا هين، لأنها فانية، إلا أن المشكلة الكبيرة في الإختيار الذي يرجع إلى دين الإنسان ومصيره.

 

  • معايير الناس في الإختيار

معايير أربع هي محور أغلب إختيارات البشر، وهي التي يجمعها قول الله تعالى: [بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا].

الأول: المصالح

{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، فهو لا يختار شيء خلاف لمصالحه، وإنما مصالحه هي التي تدفعه للإتنخاب.

الثاني: الخوف

فالبعض جبان، ينهزم سريعاً، أو يختار عند الخوف، فإذا كان المرشح أمامه؛ علي بن أبي طالب، لا يبايعه، ولكن إذا كان الحجاج، نجده مستعداً للبيعة!

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: “يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَ اثْنَتَيْنِ صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلَامٍ، وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ، لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ. تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ”.

الثالث: العصبيات، فإن الكثير من القرارات التي يتخذها الناس، تتخذ على أساس العصبيات والحميات والقبليات، فلا يختار الشخص وفق معيار القيم بل يختاره لأنه من قبيلته او عشيرته أو قرابته.

الرابع: التلون بلون الجمع

يريد أن يكون مع الاكثرية من الناس، وإن كانوا على باطل، فحين كانت فاطمة الزهراء سلام الله عليها، تطرق باب دارهم واحداً واحداً، كانوا يقولون: لقد مضت بيعتنا! علماً أنهم سمعوا حديث نبيهم الكريم في تحذيره من مغبة الوقوع في التلوّن مع الكثرة على حساب الحق، في وصيته المشهور لعمار أن “يا عمار! اذا رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً آخر فاسلك مع علي ودع الناس، فانه لن يدلك على ردى، ولن يخرجك من هدى”.

 

  • الزهراء والإختيار الصحيح

أما الإختيار الصحيح بما يفيد الدين والدنيا، هو أن نتخذ سمتهم، ففي الحديث الشريف: “انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ وَ اتَّبِعُوا أَثَرَهُ-*مْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا وَ لَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا وَ لَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا“.

إن فاطمة؛ وهي على جلالتها وعظمتها، وهي التي قال عنها النبي، صلى الله عليه وآله: “و لو كان الحسن شخصا لكان فاطمة، بل هي أعظم، إنّ فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصرا و شرفا و كرما”، لكنها مطيعة تمام الطاعة لأمير المؤمنين عليه السلام فحينما شكت لأمير المؤمنين عليه السلام قائلة: “يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْكَ السَّلَامُ اشْتَمَلْتَ شَمْلَةَ الْجَنِينِ، وَ قَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَّنِينِ، نَقَضْتَ قَادِمَةَ الْأَجْدَلِ، فَخَانَكَ رِيشُ الْأَعْزَلِ، هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ يَبْتَزُّنِي نَحِيلَةَ أَبِي وَ بُلْغَةَ ابْنَيَّ، لَقَدْ أَجْهَرَ فِي خِصَامِي، وَ أَلْفَيْتُهُ أَلَدَّ فِي كَلَامِي، حَتَّى حَبَسَتْنِي قَيْلَةٌ نَصْرَهَا، وَ الْمُهَاجِرَةُ وَصْلَهَا، وَ غَضَّتِ الْجَمَاعَةُ دُونِي طَرْفَهَا، فَلَا دَافِعَ وَ لَا مَانِعَ، خَرَجْتُ كَاظِمَةً، وَ عُدْتُ رَاغِمَةً، أَضْرَعْتَ خَدَّكَ يَوْمَ أَضَعْتَ حَدَّكَ، افْتَرَسَتِ الذِّئَابُ وَ افْتَرَشْتَ التُّرَابَ، مَا كَفَفْتَ قَائِلًا، وَ لَا أَغْنَيْتَ بَاطِلًا، وَ لَا خِيَارَ لِي، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَنِيئَتِي، وَدُونَ زَلَّتِي، عَذِيرِي اللَّهُ مِنْكَ عَادِياً، وَ مِنْكَ حَامِياً، وَيْلَايَ فِي كُلِّ شَارِقٍ، مَاتَ الْعَمَدُ، وَ وَهَنَتِ‏ الْعَضُدُ، شَكْوَايَ إِلَى أَبِي، وَ عَدْوَايَ إِلَى رَبِّي، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَشَدُّ قُوَّةً وَ حَوْلًا، وَ أَحَدُّ بَأْساً وَ تَنْكِيلًا”.

فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: “لَا وَيْلَ عَلَيْكِ، الْوَيْلُ لِشَانِئِكِ، نَهْنِهِي عَنْ وَجْدِكِ يَا ابْنَةَ الصَّفْوَةِ، وَ بَقِيَّةَ النُّبُوَّةِ، فَمَا وَنَيْتُ عَنْ دِينِي، وَ لَا أَخْطَأْتُ مَقْدُورِي، فَإِنْ كُنْتِ تُرِيدِينَ الْبُلْغَةَ، فَرِزْقُكِ مَضْمُونٌ، وَ كَفِيلُكِ مَأْمُونٌ، وَ مَا أُعِدَّ لَكِ أَفْضَلُ مِمَّا قُطِعَ عَنْكِ، فَاحْتَسِبِي اللَّهَ“. فَقَالَتْ: “حَسْبِيَ اللَّهُ.. وَ أَمْسَكَتْ“.

وبعد ذلك لم تكلم أمير المؤمنين عليه السلام بشيء مما حدث لها قط، وإنما بقيت في ذلك الحال بضلع مكسور وطفل مسقط في أحشائها، ناحلة الجسم، باكية العين، حتى إستشهدت سلام الله عليها في هذا السبيل.

ولعل هذا من أهم الدروس الذي نتعلمه من الصديقة الزهراء، بأن لا يكون إنتخابنا وفق المعايير الخاطئة بل ينبغي أن نجعل لأنفسنا معايير واضحة مبنية على أساس القيم الإلهية.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا