مناسبات

ولادة النور .. الموعد الذي كانت تنتظره الجزيرة العربية*

وكانت الجزيرة العربية يوما بأحوج منها الى موعد، كالموعد الذي وافاها به هذا الفجر البازع من اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الموافقة لعام الفيل.

لقد تمت، مع هذا الصباح الأبلج، وِلادةُ طفل سوف يعجن الجزيرة العربية بعضها ببعض، فيخلط مفاوزها باحقافها، وواحاتها بحراتها ودهاءنها بنفوذها، وبواديها بشواطيها، ويمزج قحطانها بعدنانها، وقيسيّها بيمنيها، وينفض عن خواصرها أغبرة الصحاري وأوهان الدروب، وينفخ عن أجفانها تهويم النعاس وتقريح الرمد، لينشرها فوق أحقافها وحراتها مروجا خضراء، وليُبطل بها على العالم أفقا تتوزع عليه قبب المنائر.

 

إن الطفل الذي تلقفه فجر هذا اليوم، ولفّه بهذا الهفيف من القماط، هو: محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، الملقب ( بشيبة الحمد)، بن هاشم الملقب( عمرو العلا)، بن عبد مناف الملقب ( بالمغيرة)، بن قصي، بن كلاب، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مُدركة، بن الياس، بن مُضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.

وهو: ابنه آمنة بنت وهب، بن عبد مناف، بن زهرة، بن كلاب، بن مرة، بن لؤي، بن غالب.

إنه سليل كل اولئك الذي امتدوا على طول هذه الحِقب من تاريخ الجزيرة العربية، وهو الذي سيتجسد فيه ويتقيم فيه هذا التاريخ.

ولد في مكة، يوم كانت مكة تعجن الطحين من كل ك غبار يتطاير من زحف أقدام الحُجاج الى حرم الكعبة، يومَ كانت تتلمس بركة قطيع من الأصنام المشرورة حول هذه الجدران، يوم كانت تنام صديانة، تنتظر رجوع النوق من رحلاتها الى الشام والعراق، لتأخذ من حليبها المنهوك جرعة ري.

ولقد كان أبوه عبد الله في رحلة مماثلة لهذه الرحلات، ذهب بعد أن تركه في حشا آمنة نطفة تتماثل الى جنين. كان ذلك في وقت يسمى بأيام التشريق، نسبة الى ثلاثة أيام من منتصف ذي الحجة، تعرض فيها، على الشمس لحوم الأضاحي، لتجفيفها وحفظها لكل يوم ساغب.

بعد زواج عبد من آمنة، كانت أيام التشريق هذه، المثلثة، آخر فسحة متعة بين زوجين تعانقا، ثم باعد ما بينهما وادي سرحان في خطه الطويل نحو الشام.

ولقد عاد يحمل معه جنيّ قافلته الهزيلة ومجتنى عمره: خمسة من الإبل، قطيعا صغيرا من الشياه، وجاريةً كأنها طيب المسك عفة ومحبة واخلاصا، سيكنيها التاريخ (بأم أيمن)، لأنها ستحتضن طفل مولاها شهيد القوافل، دون أن تعرف أنها تترام على من سوف يحتضن الجزيرة كلها.

لقد مات عبد الله في طريق عودته، إذ عرّج به المرض على يثرب، حيث أُدرج في مثواه الأخير دون أن يكحل عينيه بمرأى طفله المهل في جو الجزيرة كما تهل الشهب من فوق المشارق.

أما آمنة، فلقد وضعت طفلها بين يديها، كما وضعت مريم من قبل طفلها بين يديها، كما وضعت من قبل طفلها عيسى، وراحت تحنو عليه بعين تكسر هدبها الفاقة.

ولكنَّ في عين الوليد ـ وإن مطروحا على حضن يُنهنهه الفقر، ويهلهله التأيم ـ لرؤى فيها من المعاني ما يُذهل آمنة عن نفسها، لتغوص، وهيي تحدب عليه، في تأملات هي كل هذا الإنعكاس يعود إليها عن هذه الفلذة من حشاها.. فلتطرح على قدميها كنوز كسرى، ولتضأ بين يديها مقاصير الملوك، ولتمدَّ أمامها البُسُطُ، والسُجُفُ، والقباب، والعروش. إن من لمعات هاتين العينين، في حضنها، ما يعوضها عن الدنيا وكل حُثالات الدنيا.

ولقد جفَّ ثديُ آمنة ـ آمنة الساكنة الساكتة المفجوعة، المهدودة الركن والملوية الجانب ـ فكان لثويبية، مولاة أبي لهب، أن تلقم ثديها للوافد الجميل. بضعة أيام فقط، من هذا الرضاع، ربطت محمدا بمسروح ـ ابن ثويبية ـ بآصرة الأخوة.

وثويبية ـ هنيئا لها ـ لقد اشترت ببضعة أيام خلود الذكر؛ وهنيئا لمسروح، يشركه ثدي امه بارتشاف الغَمَام، وهنيئا لحمزة أن يكون قد سبق له وتلقم الثدي نفسه در على ابن أخيه ذلك الدر.

ثم أخذته حليمة السعدية، من بني بكر، لترضعه سنتين، مع ابنها عبدِ الله، في قلب البادية، ترعرع محمد، صلى الله عليه وآله، ولم يعد الى أمه إلا وهو ابن ست سنوات، فحملته من مكة الى المدينة حيث تمكن من زيارة قبر أبيه.

غير أن الأمَّ التي اخذت تستكشف في عين فتاها أغوار احلامها وأبعاد أمانيها، فاجأها الموتُ قبل أن تشاهد ابنها ينفخ في فمه الأعاصير، ويتسلق القمة السامقة التي كانت تتفتح خلف مرائيها. وفي الأبواء، بين مكة والمدينة، كان مثوى الأم الكبيرة.

واحتَمَلت الفتى أم أيمن الى جده عبد المطلب، ولكن الجد ما انفرد يتعهد حفيده أكثر من سنتين، بعد وفاه أمه، حتى التحق بابنه عبد الله عن عمر يناهز الثمانين.

وكان عبد المطلب من رعيل الذين يؤمون الحياة مرفوعي النواصي. ولقد اتفق له ذلك حتى بالرمز تخصه الطبيعة به، فإذا في ناصيته خصلة بيضاء وشمته بجلال الطلعة وهلة الجبين، وخلعت عليه كنية حفظها له  التاريخ كما تحفظ الهالة وجه القمر (شيبة الحمد) هي الكنية والوشاح لعبد المطلب بمبناها ومعناها، فهو ـ في الوقت الذي كان فيه سيد قريس: مكانةً وزعامة وتقليدا ـ كانت تلوح خلف ناصيته الغراء ناصية اخرى، هي امتداد لكل هاتيك الأظلال يطويها عن العين عمق الرؤى.

ولم يكن عبد المطلب غير امتداد لتلك القوة الجبار، متنقلة اليه من أبيه هاشم، وها هي فيه ـ تلك القوة ، تشتد وتزداد تبلورا ولمعانا، فكأنما هي تخضع لناموس النضج، شأنها شأن حجارة الماس، تطويها بطون الأرض، وتشتغل في طبخها مدارجُ الدهور.

 

هكذا كانت تظهر في هاشم، نقلا عن سلسلة بعيدة من اجداده، تلاميح الصفاء: فهو مالىء القصاع ثريدا، كان يملؤها، من قلبه وحنانه، عطفا وصدقا على وزن الأولياء الأصفياء، وليس على وزن الكهان تمويها وتمليقا. لقد أطلق عليه التاريخ كنية تتفسر فيها معاني العطف والسخاء، فهو (هاشم) أي مطعم الجياع في وسيع قصاعه خبرا ولحوما، صدقا وحدبا.

من هاشم الى عبد المطلب، الى عبد الله ـ على غير تعمير ـ إلى أبي طالب، الى محمد، صلى الله عليه وآله، كانت أروع عملية تظهير ملموحة على طريق التسلسل، كانت نهاية نضجها في طرفها المعقود بهذا الفتى الذي مات جده وتركه في عهدة أبي طالب الفقير النبيل، وهذه حلقة ما التحمت بسابقاتها إلا لتزيد من إحكام مسيرها في طريق نضجها وعَرْضِها على ثفحة النور.

———————————-

  • مقتبس من كتاب ـ محمد شاطىء وسحاب ـ للكاتب سليمان كتاني.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا