أدب

ماذا لو بايع الإمام الحسين (9)؟

حتى لو صح الافتراض بأن يزيد يفوق أباه معاوية: مقدرة، وحنكة، ودهاء ـ فلا يمكن للإمام الحسين عليه السلام أن يقدم له أي نوع من مبايعة فيها قبول أو رضوخ، فمعاوية بالذات ـ بعد أن توصل الإمام الحسين، الى تعيين ثقله في الميزان ـ وجده لهوة محنكة بصواني الدنيا، لا يهتم بتزيينها وتقديمها على المائدة الكبرى التي تتجمع حولها الأمة لتتناول منها ريها وشبعها، بل يحصر همه في جعلها حكرا في مقاصيره، يسكر منها مجدا، وسؤددا، وتلاعبا بمقدرات الناس، ويبذل قصارى جهده في تسييحها بالظلم المتداهي، والاستبداد المتباهي، حتى تبقى له في الملكية التي تتعبأ بالجور والاستبداد ـ من هنا كان الفسق عند يزيد لونا له في الإرث عن أبيه، وتلوينا له في التصنيف الممتاز وهو يتلهى بالبيزان والفهود، وترقيص القرود على أوتار العود، والتفنن بكل انواع المجون، ليكون له ـ بالتالي ـ تفنن قردي وفهدي الأظافر، يأمر بإنشابها في عنق من لا يبايعه على كرسي الحكم.

 

ليس الإمام الحسين، عليه السلام، الآن ـ وهو الغارق في نفسية متملية من معاناتها الناضجة بالفهم، والعمق، وروز الحقائق ـ إلا الرافض كل أنواع المبايعات ـ أكان المبايع له: يزيد الفاسق، أم أبوه معاوية المحنك بحلاوة الملك ـ إن الإمام الحسين الآن وهو المنتفض على كل الخط الذي رسمه عمر بن الخطاب، لأنه الخط الذي لعب فيه ـ على هواه ـ لعبا زريا بمصلحة الامة، ورماها في فوهة المجهول. صحيح أن الإمام الحسين، عليه السلام، تحول ـ في فهمه وإدراكه ـ إلى اعتبار كل خطأ طريقا الى صواب، أو بالأحرى، أو تصويب ـ ولكن ذلك لا يعني أن يحترم الخطأ، ويلثم يده البيضاء ـ لهذا فإنه الآن لا يقدر أن يغفر لابن الخطاب خطوة زل بها عن حقيقة النهج، ولا يقدر ـ في الوقت ذاته إلا اعتبار يزيد قرداً مسمى ( بأبي قيس)، وهو فعلا ـ اسم قرد ذكي وممتاز، خلعه عليه أستاذه يزيد، وكان رفيقه في جميع حفلات مجونه ـ أما المهزلة المؤلمة التي تفرض على الإمام الحسين، عليه السلام الآن احتمالها تحصل تحت عينيه، فهي كونه مدعوا للرقص في الساحة ذاتها التي يرقص فيها (أبو قيس) الذي ألبسه يزيد حلة التهريج.

سيان ـ يقول الآن الإمام الحسين عليه السلام ، في نفسه ـ أكان المناجز يزيد، أم أنه بهلوان آخر اسمه عمر ـ لأنه أصبح يدرك أن ساحة الصراع تستدعي نزولا حاملا في يمنيه سيفا تستفيد من نوعيته الأمة، بأنه نوع لا يقصف ـ وعندئذ فإن الحسام هذا لا يمكنه أن يحفظ اسم الذي  ينزل إلى مناجزته في الميدان ـ إن قيمة هذا الحسام هوأنه صقيل وقائم بذاته، ولا دخل لاسم الخصم فيه، سوى أنه قد استجعل هذا الحسام الى الخروج من غمده ـ وهذا هو كل دور يزيد وهو في الساحة يستدعي الإمام الحسين، عليه السلام الى النزول إليها مبايعا، وإلا فإنه عنقه هو المضروب!

 

في كلا الحالتين ـ بايع الإمام الحسين أم لم يبايع ـ فعنقه هو المضروب! لقد توصل الإمام الحسين، عليه السلام، الى استيعاب هذه الحقيقة  في وجود الصريح ـ وهو وجود طالبي ـ إمامي ـ انتسابي إلى أهل البيت عليهم السلام ـ وهو وجود مرئي بعين سفيانية يهيجها الانتساب الطالبي كما يهيج الثيران الاسبانية كل تلويح بقماشة حمراء ـ أما يزيد فهو المتلاعب الآن بالتهديد، كما تتلاعب القطط ـ وهي فصيلة من فصائل القرود أو الفهود ـ بالفأرة التي تصطادها، تمنيها بالهروب، وتمنيها .. وتمنيها وتمنيها … حتى تقتلها من فرط التمني!

من هنا أن الوالي الذي عُزل لأنه لم يكن سنوراً يتقن اللعب بصيده، جاء يعرض على الإمام الحسين، عليه السلام، مبايعة تنجيه من الوقوع في العطب، وهو يصدق أن الإمام الحسين، نازل عند عرضه، ومـأخوذ بتبهرجه بيزيد، لقد صدق ابن عتبة أن الإمام الحسين مقبل على مبايعة تبهر ـ ولقد أعجب أيضا بتبرع الحسين بدمه من أجل الأمة التي هي ضمن الصك الذي يملكه يزيد ـ أما غير ذلك فإنه لم يلمح.

لم تكن المبايعة التي قصدها الحين في حضرة الوالي ـ أبداًـ ليزيد، بل إنها لجوهر الإمامة التي هي له الآن في شمولها المطلق. إنها للأمة تقطف منها ـ في كل غد طالع عليها ـ ما يعينها في البلوغ الكريم، وما يثبّت أقدامها في الترقي الصامد بحقيقة الذات. ولقد تعهد ببذل دمه من أجل هذه الأمة الكريمة التي تتحصن دائما باسم جده العظيم، صلى الله عليه وآله، الذي وهبها كل ذاته، في حين أنها لا تتجمد إلا وهي تنهمر بذكره.

لم يشد الإمام الحسين عليه السلام ـ في حضرة الوالي ـ عزمه على المبايعة تلك، ممهورة ببذل الدم حين تقضي الحاجة، بل إنه التقرير الكبير الذي كان يصوغ بنوده منذ بدأ يعي حقيقته المرسومة في بال جده الأكبر، وهي حقيقة ما استوعبها حتى ادرك أنه مربوط بالالتزام. إن الإمامة ـ في إحاطتها الكاملة ـ هي التي كانت توسع عليه المعاناة، وتكيفه بالصبر والتأني، وتحضّره لكل مواجهة تجابهه بها الأحداث التي هي ـ بحد ذاتها ـ مجالات تعبر بها الحياة عن مقاييس زخمها في مجتمعات الإنسان.

تلك هي مجالات الأحداث التي توقف الإمام الحسين عليه السلام، طويلا في استيعابها والتملي في درسها، وهي تنفث ريحها السموم في جو الأمة التي استوعبها جده، وأبوه، وأخوه، وتركوا زمامها الآن عليه حتى يتعهدها بالإمامة التي عبث بحبالها عمر بن الخطاب ولم يقبل إلا أن يوصلها إلى من يتابع العبث بها عبث العابثين.

أما الأمة، فهي التي يتم توجيهها لتعرف الآن كيف تقرأ الأحداث التي نقشتها هي بخطواتها الممشية فوق الأرض، حتى يكون لها ـ من حروف القراءة تميز بين نقش ونقش، تتجنبه هزيلا مريضا، وتتحفز لتقويمه إن رأته معوجا، وترتاده أن تلمس فيه خطأ إلى صواب وجمال ـ تلك هي المهمة الكبيرة التي نقش خطوطها وقنواتها الصريحة جده الأعظم، صلى الله عليه وآله، فقدمها للأمة تقرأ بها تقويم وخطواتها، وتعيين حظوظها، كلما تنقلت بها الأعمار في باحات الحياة ـ وتلك هي المهمة الكبيرة ذاتها ـ تناولها أبوه الأجلّ، وقدمها للأمة تقرأ بها صيانة خطواتها، وهي تحفرها فوق الرمال المعمية بالسراب ـ وتلك هي المهمة الكبيرة ذاتها، توسلها أخوه الأحب، وقدمها للامة تقرأ بها لملمة حواشيها، وهي تنزل في كل حقد وضيم يضللانها في كل ليل مدلهم، يشتد فيه سطو الذئاب على نعاج بلا حراسة ـ أما المهمة الكبيرة ذاتها، فهي التي تطوي كشحها عليه الآن، ليقدح لها ـ من قلبه، وفكره، وعزمه ـ شرارة تعلم الأمة كيف تبني سيرتها المجيدة في الحياة، حتى تخلص عينيها من كل وطأة خبل ونعاس ترميها في غفوة الذل والاستكانة، وتبعدها عن المحارم الشريفة والعزيزة التي تستهيم بها الحياة وهي تتمجد أبية كريمة في حضن ربها العزيز.

——————————-

  • مقتبس من كتاب ـ الإمام الحسين في حلة البرفير ـ للكاتب سليمان كتاني.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا