مناسبات

السَّيِّدَةُ رُقَيَّةُ شَهِيَدةٌ وَشَاهِدَةٌ

  • مقدمة

كم نعِمنا بتلك الرِّحاب الرائعة تحت تلك القبة النورانية الهادئة للسيدة رقية عليها السلام؟

كم المكان هادئ، وجميل، وروحاني بشكل عجيب وغريب، في جوار تلك الطفلة الرقيقة، والبضعة الحسينية الصغيرة، التي تعلَّقت بأبيها إلى حدِّ أنها كانت صورته لا تفارقها، ولشدَّة الوله بالسيد الوالد العظيم، فكانت منيَّتها على رأسه الشريف؟

البنت عادة ما تتعلق بأبيها، كما الطفل يتعلق بأمه أكثر، ولكن تعلق السيدة رقية بأبيها كان يختلف عن تعلق البنات بالآباء – على ما يبدو – لأن القصص التي تُروى عن تلك العلاقة تفوق حد التصور البشري، رغم صغر سنِّها فقد كانت روحها متعلقة بأبيها عليها السلام.

وكنا عندما ندخل ذاك المرقد الشريف للسيدة رقية في خربة الشام التي تحولت إلى مزار من أجمل المزارات في مدينة دمشق، فنشعر بحرارة الحب الطفولي، والغيرة الأبوية، وذلك لأن القائمين على بناء وترميم المرقد جعلوه كالمهد ليوحوا إلى الزائرين الكرام بأن هنا مهد تلك الطفلة الحسينية التي قضت على رأس أبيها سيد الشهداء عليه السلام.

ندخل إلى الحرم بلهفة وشوق بشكل أسبوعي وذلك قبل أن نبني مسجد الإمام الحسين، عليه السلام في حي القابون من مدينة دمشق الشام، الذي أطلقنا على الحي الذي هو فيه (حي الإمام الحسين، لأنه كان بالنسبة لنا زيارة، وصلاة، وفسحة نخرج من البيوت إلى بيوت الله في يوم الجمعة وذلك لأن من عادة أهل الشام يخرجون (سيران)، أي رحلة قصيرة خارج المدينة إلى الربوة، أو الغوطة، وهي عادة قديمة في أهل الشام، ونحن بما أننا وافدون إليها فكانت رحلتنا إلى السيدتين (زينب، ورقية)، فكل حسب همَّته ونشاطه ووجود السيارة لديه.

ونحن كنا من المداومين على الحضور في السيدة رقية لقربها من حيِّنا، فكان لنا معها الكثير من القصص، والمشاهد، والحكايات التي كنا نسمعها والبركات التي كانت تشملنا بها فهي مما كنا نعيشه ونشعر به في كل حياتنا وزيارتنا إلى تلك البقعة الطاهرة التي تتشرف بجسد السيدة رقية الطفلة الحسينية المظلومة، روحي فداها.

 

  • عبرة من التاريخ

من أعجب قصص التاريخ البشري هي قصة عاشوراء ونهضة الإمام الحسين، عليه السلام فهي قصة كُتبت بالدم والأشلاء من بدايتها وحتى نهايتها، والمتأمل فيها يجدها أن الله سبحانه خطط لها بدقة وأراد لها الخلود، والبقاء فغرسها في طينة البشر، وعجنها مع فطرتهم النقية الصافية، فهي كالإيمان وجوداً وعدماً، والفضيلة والقيمة أيضاً، فصار الإمام الحسين عليه السلام، مجمعاً للفضائل والقيم ونهضته مقلعاً، ومنجماً للفضيلة والفضلاء عبر العصور والدهور، وستبقى وتزداد إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها وريثه والآخذ بثأره من أحفاده وبنيه.

فالبشر قاصرون عن أن يستوعبوا مدى الدِّقة في التخطيط والتنفيذ لملحمة عاشوراء، والبشر عادة لا يقفون كثيراً عند معركة بسيطة لم تستغرق سوى سُويعات من نهار خريفي في صحراء قاحلة الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود – كما كان يقول العرب عنها – لا سيما وأنها كانت غير متكافئة بين جيش جرار ومن ورائه دولة مترامية الأطراف، مقابل بضع وسبعين رجلاً فقط، فأبادوهم ولم يبقَ منهم أحد إلا النساء والأطفال وشاب يكاد المرض أن يأتي عليه.

فمن المفروض أنها لا تُذكر أصلاً في التاريخ، ولو استطاع بني أمية لدفنوها في تلك الصحراء، ولكنها كانت كالنور المتنفس من جهة المشرق عند اقتراب الفجر تأبى عليهم الخفاء مهما فعلوا، ومن العجب العُجاب أنك تعرف أن الجُناة هم الذين نقلوا لنا تفاصيل هذه المعركة، فهم شهود على أنفسهم وجريمتهم الشنيعة.

 

مشيئة الله تعالى هي الغالبة، وإرادته نافذة في خلقه ولذا قالوا: (ما كان لله ينمو)، فتلك الطفلة كانت كبذرة خير زُرعت في تلك الخربة، وإلى جوار طغاة زمانها فالأحرار تزورها ويتبركون بترابها ويتمسَّحون بمهدها وضريحها، ويلعنون الظالم الطاغي الذي قتلها على رأس أبيها

 

ومن العجائب أنهم حملوا الرؤوس معهم – فأي غباء أصاب أولئك الطغاة – هل يُحمل رأس السبط ويُدار فيه في بلاد تقول وتعتقد برسالة جده المصطفى، صلى الله عليه وآله وأنه سيد شباب أهل الجنة؟

والأعجب أنه كان يقرأ القرآن وهذا ما رواه الشيخُ المفيدُ في الإرشاد عن زيد بن أرقم أنّه قال: “مُرَّ به – رأس الحسين – عليَّ وهو على رمحٍ وأنا في غرفةٍ لي فلمَّا حاذاني سمعتُه يقرأ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} (الكهف: 9)، فقفَّ واللهِ شعري وناديتُ: “رأسُك واللهِ يا ابنَ رسول الله أعجبُ وأعجب”. ( بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 45 ص 121.).

وهذا من المتواترات في هذه الأمة، فكانوا ينقلون جريمتهم معهم، في كل المراحل، والذي لم يخطر على بال أحد من الطغاة البغاة أن هذا الركب البسيط في مظهره جعله الله يترك في كل مكان ينزل فيه أثراً خلَّده ليبقى الأثر شاهداً على تلك الجريمة النكراء، فما من موضع نزلوا فيه إلا وتركوا فيه شيأً يدلُّ عليهم، ولو كانت بحجم قطرة دم كما في مدينة حلب حيث مشهد النقطة، وإلى جواره السقط الشهيد الذي يُسميه الحلبية (محيسن)، والعجيب أن تلك القطرة من الدم التي سالت من الرأس الشرف في كل عام تتحوَّل إلى دم عبيط في يوم عاشوراء، وهذا من المشهورات عندنا في حلب.

وكذلك في انطاكية، وجسر الشغور، وحماه، وبعلبك، إلى أن وصل الركب إلى دمشق الشام في مطلع صفر الأحزان، وشاء الله أن تستشهد السيدة رقية بنت الإمام الحسين، عليه السلام على رأس أبيها فتموت ويدفنها أخوها الإمام السجاد، عليه السلام وعمتها زينب في تلك الخربة التي كانوا فيها، وتركوها ورجعوا إلى كربلاء ثم إلى المدينة المنورة، فمن المفروض أنها تُنسى، إلا أنها من شواهد الله ورسوله، على جريمة بني أمية النكراء، فدُفن بالقرب منها الطاغية معاوية بن أبي سفيان، وحفيده معاوية بن يزيد، ولم يبتعدوا عنها عشرات الأمتار فقط.

ولكن أين مرقدها الشريف، من مدفنهما البئيس، لا سيما معاوية الطاغية، الذي وصفه لي والدي الحاج أبو نجيب (رحمة الله عليه)، وأخي الأكبر أبو أحمد، حين زاراه بمكيدة، وأنا شخصياً رفضتُ مرافقتها في الزيارة لقبر معاوية، الذي خبؤوه داخل المنازل، ومنعوا أحداً من زيارته لسوء منظره، وبؤس تُربته، فكانت كما وصفها الشاعر السوري مفتي طرطوس الدكتور محمد مجذوب في قصيدته التي قالها حينما زار مرقد أمير المؤمنين، عليه السلام في النجف، وعندما رجع إلى الشام ذهب وبحث عن قبر معاوية فلما رآه قال هذه القصيدة العصماء:

أين القصور أبا يزيد ولهوهــــــــــا والصافنات وزهوها والســــــــؤددُ

أين الدهاء نحرت عزته علـــــــــى أعتاب دنيا زهوهـــا لا ينفـــــــــدُ

آثرت فانيها على الـــــحق الـــــذي هو لو علمت على الزمـــــان مخلدُ

تلك البهارج قد مضت لسبيلهـــــــا وبقيت وحدك عبرة تتجــــــــــــددُ

هذا ضريحك لو بصُرت ببؤســــه لا سـال مدمعك المصير الأســـــودُ.

 

  • الشهيدة الشاهدة

فإرادة الله تعالى شاءت أن تكون تلك الطفلة شاهدة على الجريمة، وشاهدة على عدالة الله في هذه الحياة، فمَنْ كان يتصوَّر أنه سيأتي في عمق الزمن الآتي ويكون لهذه الطفلة مقاماً شامخاً ومزاراً عظيماً يقصده المؤمنون من كل حدب وصوب، وإلى جوارها ذاك الطاغية الذي حكم أربعين سنة الدولة الإسلامية بالحديد والنار والحقد والغدر والدجل والكذب؟

فمشيئة الله تعالى هي الغالبة، وإرادته نافذة في خلقه ولذا قالوا: (ما كان لله ينمو)، فتلك الطفلة كانت كبذرة خير زُرعت في تلك الخربة، وإلى جوار طغاة زمانها فالأحرار تزورها ويتبركون بترابها ويتمسَّحون بمهدها وضريحها، ويلعنون الظالم الطاغي الذي قتلها على رأس أبيها.

وهي شاهدة على أمة قتلت ابن بنت نبيها ومازالت تبحث عن أبنائه لتقتلهم كما يفعلون في هذه الحرب التكفيرية الظالمة التي شنَّتها قطعان الظلام الصهيووهابية المجرمة.

فآلاف التحية والثناء على عزيزة الإمام الحسين، سيدتنا ومولاتنا رقية شهيدة الرأس الشريف.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا