رأي

وأنّى لكم ببلوغ ذلك؟

منذ انطلاق حراك الشارع الشيعي في تشرين عام 2019 بدأ الإعلام التعبوي بتشبيه ما يجري بمجريات ثورة الإمام الحسين عليه السلام، فلو سقط جريحاً أو قتيلاً أو حرقت خيمة أو غير ذلك، كانت تنطلق تلك الأقلام لتشبه الحدث بأحداث عاشوراء.
ولا أخفي أن هذا التشبيه كان يؤلمني كثيراً، للفارق الكبير بين هذا الحراك وبين تلك الثورة الخالدة، إلا أن ما جعلني أكتب هذه الكلمات هو ما انتشر مؤخراً من “مصادرة” للثورة الحسينية وكأن الممثل الرسمي لها في عصرنا هم “التشرينيون”، وقد عملت الجيوش الإلكترونية على ترسيخ بعض المفاهيم الخاطئة التي لا أشك أن خلفها تقف أيادي تنتمي لطوائف لا يعتقدون بالإمام الحسين، عليه السلام، و لا بثورته.
وقد وصلت الوقاحة بهم إلى تأليف شعر من قبل شخص بعثي يدّعي فيه أن هذه الثورة أفضل من ثورة الإمام الحسين عليه السلام!

  • الحسين منتصر أم منهزم؟

لا يشك منصف أن نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، لم تكن نضهة فاشلة ومهزومة وغير مثمرة، بل إنها تتعاضم يوماً بعد يوم لأنها حققت جميع الأهداف المرجوة منها، وهذا ما يجعلها تكبر في القلوب، وتنمو لدى جميع عشاق ومتيّمي تضحيات الإمام الحسين، عليه السلام.
وهذا ما قد وجده غير الموالين حتى، وصار هذا المنطق ينفذ يوماً بعد يوم بينهم؛ فتجد كبار العلماء، وخيرة المؤلفين قد وجدوا أنفسهم تحت تأثير هذه الواقعة الفريدة من نوعها، مما دعاهم للنظر إليها بأهمية واحترام بالغين.
هذا، ولكن هذه الثورة بمنطق “الثورات التغييرية” كانت فاشلة بمعنى الكلمة، فهي لم تستطع أن تسقط حتى مدينة واحدة تحت سيطرتها من الناحية العسكرية، ولم يتفاعل مع الثورة سوى العشرات من الرجال والنساء والأطفال، وأما الآخرون فقد خذولها إما خوفاً أو طمعاً.
فكيف تُعد ثورة ناجحة؟

  • ثورة سياسية أم دينية

نعم؛ لو نظرنا إلى حركة الإمام الحسين عليه السلام بالمفهوم الذي نشرته أقلام السلطات آنذاك وانتشر بينهم حتى يومنا الحاضر، فلا يمكن عدّها ثورة ناحجة، فهي لم تحقق أبسط الأهداف السياسية، ولكن هل ثار الإمام الحسين، عليه السلام، لأجل التغيير السياسي؟
للأسف الشديد هذا ما تحاول هذه الأقلام نشره مستغلين الجهل وعدم الإطلاع عند طبقة الشباب، فصاروا ينشرون منشورات جاهزة ضد الخطباء والعلماء، بأنكم “تتاجرون بإسم الحسين، وأن الحسين “ثورة ضد الظلم”، والشباب هم من ثاروا ضد الظلم فهم طبّقوا ما قاله الحسين، عليه السلام، وأنتم تركتم ذلك”.

 

نسي هؤلاء أن العلماء والهيئات الحسينية هي التي قارعت ظلم صدام، وقارعت ارهاب التنظيمات التكفيرية، و وقفت بوجه داعش، وكان الموت “يخضمهم خضم الإبل نبتة الربيع”، فكم من شاب غاب في السجون لوقوفه بوجه صدام؟

 

نسي هؤلاء أن العلماء والهيئات الحسينية هي التي قارعت ظلم صدام، وقارعت ارهاب التنظيمات التكفيرية، و وقفت بوجه داعش، وكان الموت “يخضمهم خضم الإبل نبتة الربيع”، فكم من شاب غاب في السجون لوقوفه بوجه صدام؟ وكم من سجين اذابته أحواض التيزات، وسقط في ساحات الاعدام؟ لا توجد احصائية دقيقة لآلاف الشهداء الذين سقطوا خلال ثلاثين عاماً من حكم حزب البعث في العراق، وحتى سقوطه في 2003، وكان شعارهم الاول: “أبد والله ما ننسى حسيناه”، وثقافتهم وفكرهم مستقاة من النهضة الحسينية بكل عبرها ودروسها، فكيف يكون –والحال هكذا- رقم ال700 ممن سقطوا خلال أيام الاحتجاجات، وريثاً لثورة الحسين، ثم يلغون كل تضحيات الآخرين، بل يوجهون لمن لا يتوافق معهم أقبح الألفاظ ويتهمه بأبشع التهم؟
بالرغم مما يقال ويثار في الشارع، فانه من الصعب جداً تبني مقولة: “مصادرة النهضة الحسينية”، لسمو مكانتها، وعمق مضامينها، إنما الخشية في الوقت الحاضر من تحريف الحقائق باتجاه آخر، وصنع اطار ثقافي جديد لنهضة الامام الحسين، علماً أن الاطار الثقافي رسمه الامام الحسين بنفسه قبل ان يصل كربلاء، كما أسهمت اخته الحوراء زينب، والامام السجاد، عليهم السلام، في بلورة وتكريس هذا الاطار في النفوس والقلوب.
يسعى البعض لأن يصوّر أن الإمام الحسين، عليه السلام، إنما ثار على الحكم الأموري لأنه رأى الخدمات تدهورت في البلاد الإسلامية، والشباب أصبح بلا “وظيفة حكومية”! بالرغم من أن العكس هو الصحيح؛ فالوضع الإقتصادي لم يكن بذلك السوء، بل كان معاوية يوزع العطاء لشراء ذمم الناس، وكانت الرواتب عالية جداً لكسب الولاء له ولابنه يزيد.
و لو كان الإمام قد أراد التغيير السياسي لتوجه إلى الشام مباشرة، أو بنى له قاعدة في مكة أو المدينة أو اليمن، بيد أنه، وكما نقرأ في زيارته “بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة”، فالإمام صرّح مراراً، أن المشكلة مع بني أمية في “الدين”، لا في “الدنيا”، و صرّح أنه يريد أن يرى الناس “المعالم من دينك” و “يظهر الإصلاح في بلادك” ويريد أن يأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صرّح بأن مشكلته مع يزيد لأنه فاسق يتجاهر بشرب الخمر، ويرتكب الفجور، ويلعب بالقردة والكلاب.
ثورة الإمام الحسين كانت تحكي هدفاً واحداً فقط، وهو إحياء الدين، فهل وجد الآخرون التطابق مع هذه الثورة؟ وأنّا لهم ببلوغ ذلك وقد ابتعد الكثير منهم عن الدين
فهل معالجة أزمة الوظائف الحكومية يكون بنشر الفسق والفجور؟!
وهل إن اصلاح الكهربلاء يتم بالرقص والغناء؟!
وهل مشكلة “العدس” كان في عدم وجوده في التموينية؟ أم في وجوده في قدر القيمة لزوار الإمام الحسين؟!
ولماذا لم يخرس الشباب “الثائر الحسيني” ذلك اللعين الذي أعلن صراحة في منصة التحرير أنه سيمنع زوار الإمام الحسين، عليه السلام، ولماذا لم يصدر بيان من “الثوار” ضد تصريحات الناطقة بإسمهم بأن المشكلة هي مشكلة “المشاية”؟!
وهل تعالج مشاكل البلاد بوجود السراق والمنتفعين والفسقة في الخيام، و بدفع الشباب العزل إلى التضحية بمواجهة قوات الشرطة و وقوع المواجهات؟
وهل تعالج مشاكل الجهل والتخلف في العراق بغلق المدارس والجامعات وتهديد الأساتذة وضربهم وإضرام النار في الشوارع؟!
نعم؛ لو أراد هؤلاء أن يكونوا ثائرين على نهج الثوار ضد الأنظمة الديكتاتورية والفاسدة، فعليهم أن يكونوا أولاً هم من يطبق القيم المناقضة للفساد والانحراف، وأن يكونوا أسياد أنفسهم، ويطبقوا كلمات الامام الحسين، عليه السلام: “والله لا أعطيكم إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد”، و”هيهات منّا الذلّة”.
هذا هو منهج وطريق الامام الحسين، عليه السلام، فكان بامكانه العيش بأفضل حال، كما وعدوه يوم عاشوراء، لكنه فضل التضحية بنفسه وأهل بيته من أجل أن يحيى الدين وتحيى قيمه ومبادئه الى يوم القيامة، ويعيش الناس في العالم كله بأمان و حرية وكرامة.

عن المؤلف

د. مجتبى التميمي

اترك تعليقا